ﻷني عشت أغلب فترة طفولتي في المملكة العربية السعودية، فإني أدرك أن كل مساعي التغيير لنمط الحياة المنغلق والمفرط في المحافظة، التي طال التعطش لها خصوصًا مع تصاعد التيار الليبرالي فيها، لم تأت بسهولة ويسر، ولم تقع بين يوم وليلة، وذلك بسبب اﻹدراك الضمني من قِبل الكثيرين أنه لا يمكن أن تستمر الحياة بشكل سليم على نفس الشاكلة.
وكانت واحدة من ملامح هذا التغيير هي تلك المحاولة الدؤوبة لتكوين صناعة سينما في السعودية حتى مع عدم وجود دور عرض هناك، إلا أن تجارب صناعة الأفلام لم تتوقف، وباتت تعرض في المهرجانات السينمائية العالمية، مما وضع المملكة في تحدي جديد أمام العالم حول جدوى التمسك بتقاليد بالية ورجعية يتعرف عليها الجميع من خلال وسائل اﻹعلام أو من السينما أو حتى من المعايشة المباشرة، لتقف وتتأمل في مرآتها وجهها الفعلي.
أظن أن الكثيرين لم يكونوا ليتخيلوا في أقصى أحلامهم جموحًا أنه يمكن أن يشاهدوا في يوم من اﻷيام فيلم كوميديا رومانسية قادم من المملكة مثل الذي قدمه الكاتب والمخرج محمود صباغ في عمله اﻷول بركة يقابل بركة، لكن المعجزة حدثت بالفعل، وبنتيجة جيدة جدًا توافقت مع سقف التوقعات الذي حظى به الفيلم ممن انتظروه.
حتى مع انطلاق الفيلم من بيئة محلية صرف، هناك شعور يسيطر على المخرج محمود صباغ حول نشدانه لجمهور أوسع من جمهوره المحلي، وأغلب الظن أن هذا لم يكن اختياريًا بقدر ما جاء تماشيًا مع تغير طبيعة العالم الذي صار منفتحًا من جميع جوانبه على نحو غير مسبوق، مما يجعل حالة الحياة الاجتماعية في السعودية قد تكون معروفة سلفًا لغالبية المشاهدين، ليبقى التحدي في كيفية الوصول لهذا الجمهور اﻷوسع.
أظن أن صباغ قد بذل جهدًا كبيرًا لتبدو لغة فيلمه سلسة وغير عصية على الاستيعاب ﻷغلب المشاهدين مع عدم اللجوء للكثير من المفردات مفرطة المحلية في السعودية والتي قد تستغربها أذن أي مشاهد عربي، مع الحفاظ في نفس الوقت على روحها وتميزها وموسيقاها بدون إخلال وبدون لي لذراعها.
كما تبدو القصة التي يختارها صباغ لفيلمه سهلة التمثل، خاصة في البلدان المحافظة، حيث قد تتشابه الظروف لكن ليس لدرجة التطابق حول المعوقات الاجتماعية التي يمكن أن تتعرض لها قصة حب كمثل التي تنشأ بين بركة وبركة "هشام فقيه وفاطمة البنوي"، واضطرارهما المستمر للتحايل على كافة القوانين العقيمة التي قد تعوق لقاءاتهما، شيء ربما يشعرك بتقاطع هذا الفيلم في فكرته العامة مع الفيلم المصري "الحب فوق هضبة الهرم".
هناك نقطة مثيرة للاهتمام في عمل محمود صباغ هنا، وهي أن كل هذه المعوقات الاجتماعية تمسخ الإنسان مع الوقت عن طبيعته الحقيقية، فيتحول "بركة" على خشبة المسرح إلى امرأة مؤديًا شخصية "أوفيليا" في مسرحية "هاملت" لويليام شكسبير، وتتحول الفتاة "بركة" إلى مجرد فم يتحدث عبر إنستجرام دون القدرة على الظهور بكامل الوجه بسبب العواقب المنتظرة، أو تضطر حتى لارتداء ملابس رجالية وشارب اصطناعي في مشهد محوري داخل الفيلم.
إن قصة الحب التي يقع فيها "بركة" بدون تخطيط منه تفتح عيناه مع الوقت على عالمه الذي يتسع كلما انغمس، وتدفعه للنظر إلى الصورة الكاملة، فينفر مع الوقت وبتطور منطقي من كونه واحدًا من ممثلي السلطة في جدة، ويبدأ في رؤية آفاق جديدة لمدينته التي تنشد المزيد من الانفتاح والتغير بشكل يبدو بطيئًا بعض الشيء.
لكن مع السعي نحو هذا الانفتاح، لا يقارن "صباغ" السعودية بغيرها من الدول، وإنما يقارن سعودية اليوم بسعودية اﻷمس عبر مشاهد من الحوار الداخلي الذي يعايشه "بركة" بينه وبين نفسه، ليقوم من خلالها بعملية ذكر شاقة نراها عبر تتابع الصور عل الشاشة، واضعًا إيانا أمام البون الشاسع بين سعوديتين لا تشبه إحداهما اﻵخرى.
وﻷن الفيلم يسخر من تلك السلطة التي أوصلت اﻷوضاع لهذا الحد، فهو يعمد إلى السخرية منها بنفس الطريقة التي تنتهجها، فعلى مدار الفيلم، يقوم "حجاج" وعن قصد بإخفاء كل ما كانت تراه السلطة ضد قوانينها من على الشاشة عن طريق التشويش بالبكسلة pixelization لكل ما هو غير مرغوب فيه، بينما قد يظهر ما تم إخفائه من ناحية آخرى بشكل تحايلي، مثل المشهد الذي يخفي فيه بطن بطلته التي ترسم عليه وشمًا، بينما نرى بطنها في المشهد التالي من خلال صورة على حسابها على إنستجرام، أو في المشهد الذي تصور فيه نفسها وهي ترفع إصبعها اﻷوسط، حيث تظهر البكسلة متأخرة بعد أن رأينا ما تفعله بالفعل، وهي حيلة طريفة ذكرتني بما قام به اﻷديب اﻹيراني شهريار مندني يور في روايته "قصة حب إيرانية تحت مقص الرقيب"، حيث يقوم الرقيب بشطب الفقرات والجمل التي يراها مخالفة من وجهة نظره، بينما لا نزال نرى ما هو مكتوب من تحت خطوط الشطب تلك.
قد يعيب البعض على الفيلم مباشرته وقيامه بالشرح للظروف الاجتماعية للمملكة حين لا يتطلب اﻷمر ذلك، لكني في الحقيقة لم أنزعج لهذا الحد من هذا، فنحن في المقام اﻷول أمام سينما وليدة لا تزال تحبو وتتلمس طريقها وسنحت لها الفرصة للتو لكي تعبر عن كل ما لم يكن مسموحًا بالحديث عنه من قبل، وأراها في هذا السياق أنها قد شكلت ظاهرة صحية على أمل تطور الوعي بأدوات الوسيط السينمائي مع الوقت.
"بركة يقابل بركة" من أفضل مفاجأت السينما العربية في السنوات اﻷخيرة، عمل خفيف الدم فعلًا وسبّاق في تقديم الكوميديا الرومانسية في ظل بيئة تعادي العواطف الإنسانية الطبيعية، ولديه القدرة على الوصول ﻷغلب من سيشاهده، وأتمنى من كل قلبي أن تتحقق امنية المخرج بأن يعرض قريبًا في وطنه اﻷم.
(*) من قصيدة "جفنه علم العزل" لبشارة الخوري الملقب باﻷخطل الصغير.