منذ أن شاهدت فيلمه اﻷكثر شهرة "Underground" منذ بضعة سنوات، كنت أرى أن المخرج الصربي أمير كوستاريجا، ربما يكون هو أكثر صانع أفلام متحرر من قيود اﻷنواع السينمائية المعتادة في عصرنا الحالي، ستجد نفسك في فيلمه متنقلًا بكل سلاسة وبدون توقع من جانبك بين كل اﻷنواع السينمائية تقريبًا: دراما، كوميديا، حرب، رومانسية، خيال سريالي، حركة، وحتى بعض من الموسيقى، فعلها بكفاءة من قبل في "Underground"، وها هو يعيد الكرة من جديد في On The Milky Road، الذي يقوم ببطولته بنفسه هذه المرة مع اﻹيطالية مونيكا بيللوتشي.
صحيح أنه يمكن أن نعزو أعمال "كوستاريجا" وحكاياتها إلى مجموعة من الموضوعات المحددة، إلا أنه لا يكرر نفسه مجددًا بأن يعيد نفس الحكاية مثلًا في حلة جديدة ومختلفة في الظاهر، فلا يبدو هنا أن همه هو سرد حكاية ذات نفس ملحمي عن تاريخ بلاده يحمل قدرًا من العبثية والسريالية مثل "Underground"، وإنما يتخذ من نفس الموضوعات منطلقًا لسرد قصة حب تحاول أن تتحدي كل الظروف العبثية التي تلاقيها.
إن عبثية الوضع العام والامتداد الزمني للاضطرابات واستمراريتها وتعدد الجبهات خلال حقبة الحروب اليوغوسلافية قد أعطت "كوستاريجا" مساحة هائلة من اللعب تسمح له باستخدام أي شيء -وأنا أعني أي شيء حرفيًا- يقع في طريقه لكي يطوعه في قلب حكايته لتصير جزء منها كعضو فاعل في الحكاية، حتى لو كانت مجرد قطعة من الجماد (مثل الساعة الضخمة العجيبة التي تسببت في جرح كل من يحاول إصلاحها)، أو حيوان متواجد في المكان (مثل الدجاجة التي كان تتناقر مع صورتها في المرآة أو الثعبان الذي يحب شرب الحليب المتساقط من خزان اللبن الذي يحمله البطل) أو أي مصدر للموسيقي.
من المذهل حقًا تلك المساحة الدرامية الشاسعة التي يفسحها "كوستاريجا" للحيوانات في قلب الحكاية حتى يجعلها شريك أصيل فيها، بل وأن يصل به اﻷمر ﻷن يضع لفيلمه مقدمة طويلة نوعًا ما لنرى فيها نمط الحياة من منظور الحيوانات التي ساقها القدر ﻷن تكون متواجدة في اللحظة التاريخية العصيبة، فهو يحول الحيوانات هنا إلى جزء من المنظومة بأكملها كشركاء مع البشر في نفس المحنة وليسوا مجرد هامش للمتن، مما يعيد ولو بشكل غير مباشر الدور الذي لعبته الحيوانات من قبل، وعلى مدار قرون طويلة في الفنون المبكرة للحكي.
وحتى مع تغير "تون" العمل بحكم التطور المضطرد للأحداث على ضوء عبثية هذه الحرب التي طالت تلك القرية النائية التي تدور فيها أغلب أحداث النصف اﻷول من الفيلم، لا تتغير روح الفيلم اللاعبة قدر أنملة، حيث ينجح في توظيف هذا التغير في التون لصالحه بحيث لا يؤثر على سير الحكاية للوجهة التي يرغب فيها "كوستاريجا"، وحتى مع قلة زخم التفاصيل في النصف الثاني لحساب النصف اﻷول، إلا أن هذا أيضًا لا يتحول إلى مشكلة على اﻹطلاق، ويستمر حتى في توظيف كل ما هو موجود لخدمة القصة مما كان غريبًا وسرياليًا.
وكم هو ممتع في هذا الفيلم هذا الكم الذي نجده داخل الفيلم من التراسل بين قوانين الواقع وانفتاح الخيال بشكل لا يبدو معه هناك أي تنافر بينهما، مستفيدًا بذلك من واقع عبثي أصلًا يمكن أن يحدث أي شيء حرفيًا، وهو ما لا يقدر عليه سوى قلة قليلة من المبدعين، و"كوستاريجا" بالتأكيد من بينهم، فلن تتعجب في هذا السياق من اتصال اﻷذن المقطوعة لرجل الحليب مرة أخرى بخيط وابرة، أو من تحول ذلك الثعبان الصغير إلى ثعبان ضخم جدًا، أو حتى من تدخل الثعبان أصلًا ﻹنقاذ حياة الرجل عن طريق تقييده.
"كوستاريجا" من جديد يقدم في فيلمه هذا جرعة مكثفة من الحياة، بكل تفاصيلها وتناقضاتها وعبثيتها وروعتها وقبحها كأنه يحاول أن يحتوي الحياة بأكملها في ساعتين من الزمن، ولن تعرف على وجه الدقة كيف يفعل ذلك، لكنه ينجح حتمًا في ذلك.