يتماهى كل شيء. يتقاطع صوت "فارِس" الموتور مع سذاجة تفاعل "فورست" مع قصته الدرامية جدًا رغم غفوله عن هذا. يتداخل الصوتان. "اسمي الحريف.. فارس الحريف" أسمعها دائمًا في أذني رغم أنها لم ترد في أي من لحظات فيلم خان. أسمعها هكذا على مرتين، تمامًا كما يقولها توم هانكس في أروّع أفلامه "My name is Gump.. Forrest Gump".
"عند رسم الشخصية في فيلم، علينا أن نعرف ماذا تفعل الشخصية عندما تكون وحدها؟ هل تشاهد التلفزيون، تتمرن على العدوّ أو ركوب الدراجة مثلًا."
سِيد فيلد، كتاب (السيناريو)
يقف "فارس" و"فورست" على أرض واحدة، ويبدأن في أمر واحد، الركض. تثيرني كثيرًا قضية الاتفاقات الإنسانية، الصفات التي يتجمع على رقعتها أشخاص أشد الاختلاف عن بعضهم البعض، فيجدون فيما بينهم -رغم كل شيء- صفة مشتركة. بالتأكيد أن حياة واحدة بأسئلة مشابهة مطروحة؛ تمنحنا الكثير من الاتفاقات، وستمنح "فارس" و"فورست"، بالتأكيد، شيئًا ما يجعلهما بدلًا من مشاهدة التلفاز، أو ركوب الدراجات، يفعلان أمرًا واحدًا مختلفًا، يركضان.
في البداية يكون الأمر هادئًا، خطوة تلو الأخرى، يتكرر الأمر، تتتابع الخطاوي، تبتعد عن نقطة الانطلاق، ثم تبدأ في النسيّان. تنسى الفقر، والضعف، وغياب البعض أيضًا.
في الركض أمريّن كلاهما جميل، معاكسة التيّار، أو مسابقته. تسحب يدك إلى الخلف ليصبح ذراعك موازيًا بشكل كامل لمنكبك، تتراخى اليد الأولى، وتغري الأخرى بالتقليد. يدك إما مقبوضة أو مبسوطة، وضرباتك توجهها للهواء، تلطم يدك الهواء ويستمر الإغواء حتى النهاية. تنسحب الدنيا من المشهد مع تصاعد نفسك، يعلو صدرك ويهبط، وتستمر في النسيان. تطفو فوق عثرات الدنيا، لوم الحبيب الذي يدري ولا يدري، لم يعد يضايقك، في تلك اللحظة تحديدًا، لأنك عرفت حبيبًا آخر لا يشترط أي شيء. تستمر في الركض لأن كل شيء صار ركضًا، تشهد الناس تتحرك في الشوارع، يغريك أنك تجري، كأنك تهرب، في الحقيقة، لنقل في بعضٍ منها، أنت تجري بالفعل كي تهرب. في لحظة معينّة كي تكتمل اللوحة، كي ترسم قدمك، تتمة المجاز. الركض يماثل حياتك، التي لابد أن تنتهي، بنفاد أنفاسك وضعف قدمك، وخيانة الدنيا لك. تدرك أن حربك خاسرة، تعود أدراجك، وأنت تعرف إنك أبدًا تحن. لأن حربًا خاسرة أخرى، لا بأس بها، ما دمنا بالركض للحظات، سكرنا دون شراب.
يسبق صوت اللهاث، ظهور "فارس" في كل مشاهد الركض من فيلم الحريف، يأتي لهاثه بدري بدري، كأنه مُتعب من أشياء كثيرة أخرى قبل الركض، لا يوضع الركض كشيء ارتباطي في فيلم خان، فجأة بعد مشهد ما تسمع اللهاث وترى "فارس" يركض، لا يأتي بعد حزن أو فرح، يأتي هكذا، جريّة عشوائية تؤدي المعنى بشكل دقيق.
يتركك الفيلم محملًا ببعض المشاعر، الفرحة بهدف "فارس" الأخير، سكونه الشبكة، ارتفاع صوت أنفاسه، الانتصار الأخير. تسأل نفسك، هل يفرح فارس لأنه انتصار أم يحزن لأنه أخير؟
في الحقيقة بالإضافة إلى تلك التساؤلات يزيد سؤال لم يتوارد للأذهان كثيرًا. لماذا يُعّد فيلم "الحريف" جيدًا ولماذا أحببنا هدف "فارس" الأخير؟ الشخص العصبي الذي لم يقم بأي شيء جيد، خلّف وراءه أمًا مريضة، وجاء ليخوض علاقة فاشلة. "فارس" في الحقيقة شخص سيء بنوايا طيبة. خلقه خان على نحوّ غريب عن الفن السائد، لم تكن هناك قصة من الأصل، كان يريد خان تصوير المشاهد وليس الحريف، كان يستغل الحريف ليُظهر ما جاء من أجله، مباراة أخرى، غير المخلوقة بين "فارس" وعبدالله محمود، أو "فارس" وعبدالله فرغلي.
في أغلب المشاهد هناك هامش. يختلف كارل ساجان الذي ذهب إلى الفضاء فوجد الإنسان ضئيلًا جدًا، وابن عربي الذي طوى العالم بأسره في رمز الضآلة أيضًا، الإنسان. يظهر دائمًا في مشاهد الحريف بطل آخر مُهمش ينام "فارس" والآخر يضرب زوجته. يمشي "فارس" وشخص آخر يتغوط إلى جانبه. يخرج "فارس" من التحقيق ومعه نجاح الموجي، ليطلب شخص آخر منهما المساعدة في دفع سيارته المتعطلة قليلًا في يوم اشتد فيه صقيع الليل، التي سرعان ما تتحرك وتجري، وتخلفهما وحدهما في شارع واسع وحزين، وتتركنا نسأل هل حياتنا تأخذ دور البطولة فعلًا أم إنها على هامش قصص أخرى، يتركك خان بالمشاهد الجانبية كأن أفلام تداخلت، كأن رجل السيارة المتوقفة هو بطل في فيلم آخر يظهر فيه "فارِس" كومبارس لا أكثر. هل نحن أبطال أم إننا على هامش شيء؟
يسير "فارس" يُلملم ثمار أخطائه التي يبدو كأنه لم يقصد أيًا منها. تنكشف مع المشاهد الأولى عصبية وغرابة ووحدة "فارس" من الدقائق الأولى، كلمات "فارس" قليلة، مبتسرة، تحسبها مقضومة في عِزها، أما انفعالاته فيشوبها شيء من البلاهة والحدة معًا، ومع ذلك نحب "فارس". يتوقّف الزمن به، لثوان، عند وفاة والدته، يتسع الكادر ليكشفه ضئيلًا تحت إعلان توشيبا الضخم، يتلون الإعلان، متجاهلًا حزن فارس، الذي يستسلم لإغواء "سُعاد" في تلك اللحظة تحديدًا، لسبب ما.
"فارس" هو النيّة الطيبة في الجسد العليل مرة آخرى، يقصد والده، يخبره عن وفاة زوجته، يتجاهل الأمر والده، ويطلب سيجارة، ثم يطلب أموالًا، يعطيها له "فارس" رغم فقره المدقع، يخرج من جيبه كل شيء، لإنه بنية طيبة على أي حال. يظهر "فارس" للحظات كأنه شخص غير منطقي، كأنه لا مانع عنده من أن يسرق السرقة، فقط لأجل أن يتصدّق بها. تستمر الدُنيا، والد "فارس" اسمه "بكر"، وابنه اسمه "بكر"، تستمر الحكاية يقرر "فارس" أن شيئًا يجب أن يتغيّر ليكون "فارس" عاديًا، يفعل شيء صحيح للمرة الأولى في حياته، يقرر أن يترك الكرة الشراب، ويعمل في تهريب السيارات مع فاروق يوسف. يقول فارس لقريبه الذي وفد من القرية ذاتها: "كلنا غلابة يا مُحسن."
في الهواء تسبح ريشة. ويجلس "فورست" في انتظار المواصلة ويبدأ في الحديث بشكل إلكتروني بحت يحكي كل شيء.
على موقع الأفلام الأشهر IMDB يوُصف "فورست" على أنه "شخص بسيط، بمستوى ذهني قليل، ولكن نواياه طيبة". تمتلئ رحلة "فورست" بالمعجزات، يقودنا ذلك إلى السؤال، هل تمنح الدنيا الطيبين عطايا، لمجرد طيبتهم؟
يزهد "فورست" كل العطايا ولا يتمسك بغير من يحبهم، والركض. تأتي معجزة "فورست" الأولى بتهشم قدمه المعدنية لكي ينطلق بعيدًا عن مجموعة من المتنمرين الذين يحاولون إيذاءه لأنهم يستكثرون على أبله مثله "جيني".
يركض "فورست" كثيرًا طفلًا وشابًا، كل رحلات "فورست" التي يستخدم فيها قدماه مُسببة، تقول له "جيني" اركض، يقول له رئيس الجامعة اركض، في الجيش يركض من هجوم فيتنامي على المحتلين الأمريكيين، إلا أن فورست لمرة واحدة ركض دون سبب محدد لذلك.
ركض "فورست" لثلاث سنوات وشهرين وأربعة عشر يومًا وستة عشر ساعة، هي الأجمل في الفيلم. يحكم فورست الحب والتقدير، تتعدد علاقاته بين أمه و"جيني" وصديقه "بابا". يرحل "بابا"، وأمه، وتبقى له "جيني"، التي تعيش معه لأيام، ثم تتركه، تتركه كما تركته في أكثر من مرة، ولكن في تلك اللحظة، تحديدًا، يجد "فورست" نفسه وحيدًا فيركض بعيدًا ولا يتوقف.
تتسم شخصية "فورست" بالخفّة. تتزاحم مشاهد الفيلم، لا يتوقف "فورست" عن الظهور في أي مشهد أو عن الحديث، وعلى الرغم من ذلك يحتفظ الفيلم بهدوئه، يبتعد عن الصخب من حين إلى آخر، ويركن إلى بيتهم المنعزل الهادئ، يترك الملايين ليعمل في تهذيب الحشائش في حديقته، يستمر في البساطة المدهشة والجمال المستطرد. يسأله ليوتنات دان الذي فقد قدمه في الحرب، "هل وجدت الإيمان يا فورست، هل وجدت المسيح؟" ليرد فورست بسذاجة وجمال: "لم أكن أعرف أنه عليّ أن أفتش عنهم". يتعامل "فورست" مع ما يحدث ببساطة، يفرح عند عودته من الحرب في وسط حشد من الغاضبين على الحرب الأمريكية الفيتنامية، يفرح لأنه وجد "جيني"، ولا تصبح "فضيحة أنه ينسى ويبوس" جيني في وسط ذلك كله.
يقول سِيد فيلد، إن شخصين يحبان الركض لابد وأنهما يتشاركان صفات آخرى. يكرر فيلد حديثه بمنتهى الحماسة. أتأمل الفيلمين، فأجد أن الكثير من الأشياء توجد، على الرغم من البُعد. يقال في وصف الشخصيّن، فارس وفورست "ولكن نواياه طيبة". تتشابك خطوط الغياب والوجود، الحب، وقِصر اليد. تطاوع الكرة "فارس" في عشاؤهم الآخير، بينما تطاوع جيني فورست وتتزوجه. تسكن الكرة الشباك ومعها فارس، ويعيش "فورست" و"جيني" حياة تمناها. تنتهي قصة "فارس" مع الكرة، وتموت "جيني" بمرض مستعصي. يستمر لهاث "فارس" وتستمر ريشة "فورست" في الطيران. لإن الإنسان تمامًا تحركه العاصفة، لا شيء آخر، ويظهر الابنان في نهاية الفيلميّن.
يركض "فارس"، يركض "فورست". تتوقف ركضة "فارس" قليلًا لأن أحدًا يحاول خطف الكرة منه، ويستمر "فورست" في الركض. يحصل "فارس" على الكرة مرة آخرى ويشق طريقه، تطول رحلة "فورست" ويصل إلى نهاية. يراوغ "فارس" الثاني والثالث ويستدير "فورست" ويستمر في الركض لأنه لم ينته بعد. يجد "فارس" نفسه أمام الشبكة، تمامًا أمامها، ويجد "فورست" الناس تجري حوله، تطول ذقنه، تتسخ ملابسه، يعايش الفصول المختلفة. يدخل "فارس" بالكرة المرمى ليحرز الهدف الخامس له وينهي "الماتش"، ويخفف "فورست" خطاه بعد ثلاث سنوات، ينظر إليه تابعيه، ويقول أحدهم: "سيقول شيئًا". يلهث "فارس"، ويتجه "فورست" نحوهم. يسأل "بكر" الصغير أباه: "يعني مش حتلعب تاني يابا؟". يقول "فورست": "أنا متعب جدًا، سأذهب إلى البيت كي أنام". يقول "فارس": "خلاص يا بكر .. زَمَن اللّعب رَاح".