"12 Years a Slave".. ستيف ماكوين والتحكُّم المشهدي

  • نقد
  • 11:08 مساءً - 4 مارس 2017
  • 1 صورة



12 Years a Slave

هناك نوع من الأفلام يفرض على المشاهد الطريقة أو المنظور الذي يجب أن يستقبله بها.. مثلاً إذا قررت مشاهدة فيلم "إثنا عشر عامًا من العبودية" وبمُخيّلتك أنك على صدد مشاهدة أفضل فيلم في عام ٢٠١٣ بواقع فوزه بالأوسكار حينها، ربما لا يلقى إعجابك المتوقع.

الفيلم يجب اعتباره نقلاً لحقبة تاريخية من واقع أمريكا، وبتركيز أساسي على قصة حقيقية لشخصٍ أمام قضية بحجم جدل التفرقة العنصرية ضد السود وتجارة الرقيق قبل اعتباره أي شيء آخر، الفيلم الأفضل كان أم الأهم، أعتقد أن هذا المنظور ما سوف يجعل المشاهد يستقبله بدرجاتٍ أفضل من اعتبارات التقييمات والجوائز.

الفيلم الذي أخرجه ستيف ماكوين يحكي قصته من خلال عنوانه، رب عائلة يُأخذ كعبد لإثني عشر عاماً كاملاً قبل أن يعود لعائلته، وتستعرض القصة في هذا الوقت جنبات واقع تعرُّضه لأشكالٍ من المعاملات القاسية التي تعارض مبادئ الإنسانية والأديان السماوية، يتنقل "ماكوين" في فيلمه بين التركيز على ما تعرضت له شخصية البطل "سولمون نورثوب" فعليًا على مدار رحلتها، وبين ما كان عليه الوضع في ذلك الوقت من نظرات احتقار من أصحاب العرق الأبيض السلالة الأصلية، دون اللجوء لخلفيات عن الأسباب الأوّلية لما آل إليه هذا الشكل الطبقي المُجحف في المجتمع آنذاك، أو حتى استعراض من الشخصيات البيضاء اللون أكثر ما هو انعكاس على شخصيتنا الرئيسية، وعلى حالة المعاناة التي يواجهها على مدار كامل الأحداث تقريبًا، يقول "ماكوين" إن هذه هي القصة قبل أن يقول هذا هو الفيلم، زاويةٍ من القضية الجدلية الأشهر، وإذا أعتقدت أكثر من ذلك، فقد أخطأت المكان.

نشاهد منذ المشهد الاستهلالي هذه النبرة التي اتخذها "ماكوين" في فيلمه، فـ"سولومون" يجد نفسه وسط مجموعة من ذوي عرقه ورجلاً أبيض اللون يناديهم بالـ"الزنوج العبيد الجدد" ويطلب منهم أن يلعبوا لعبة القصب كنوع من السخرية، فهو يُحضّرنا إلى ما سوف تذهب إليه الوجهة على مدار الساعتين؛ معاملة جشعة غير آدمية من البيض ضد السود وإعتبارهم كخراف خُلقوا ليؤدوا أعمالهم كعبيد لأسيادهم فقط، في أحد مشاهد "الفلاش باك" التي تستعرض على مدار النصف ساعة الأولى حياة "سولومون" قبل أن يُقيّد نلاحظ نظرات أحد السود العبيد عندما يراه في السوق يدخل أحد المحلات مع زوجته مُرتدياً أفضل الملابس، وكأنما العبد مذهولاً لا يصدق ما يراه ولم تشاهد عينيه شيئاً مماثلاً قبلاً.

ما يجعل سولومون مميزاً وسط غيره أنه يستطيع القراءة والكتابة عكسهم، والأهم أنه بارع في لعب الكمان، هذا يجعله مرغوباً بين من حوله الذين رغم كونهم سود، إلا أنهم ليسوا جميعهم من طبقة اجتماعية واحدة، وبمرور القصة نعلم أن "سولومون" يتنقل على مدار الأعوام بين بيوتٍ يشاهد فيها أنواع مختلفة من التعامل معه بطريقةٍ أشبه بالطريقة الحيوانيّة التي قد يعامل أحدنا بقرةٍ أو حِصاناً هذه الأيام، فهذا العبد ذاق الأمرين وعاش الحياتين، الحياة السويّة والقاسية الوحشية، هذا شخصاً متعلماً لم يختبر كيفية العيش بين متحجري القلوب هؤلاء، نلاحظ عدم تقبله للأمر وعدم تكيُّفه مع بيئته والاستمرار في محاولة تبرير الموقف وأنه كان أحد الأحرار النبلاء وسط عدم تصديق الآخرين له، يُناجي الأيام الماضية كل حينٍ ويتخيل كم سيكون الإنسان الأسعد إذا ما استطاع الرجوع لعائلته يوماً ما.. يقول في جملته الشهيرة عندما يقول له أحدهم ما إذا أردت النجاة هنا عليك أن تصمت وألا تُظهر حقيقتك: "لكنني لا أريد النجاة.. أريد العيش".

(أنماط اجتماعية/طبقيّة مختلفة) تركيز النص -والمأخوذ عن كتاب سيرة ذاتية كتبه سولومون نورثوب بنفسه- على إظهار الطبقات الاجتماعية المتباينة من العرق الأبيض التي تعترض سولومون في رحلته الطويلة، والتي تغير من نوعيّة تصرفاته تجاههم في سبيل الخروج من هذا الكابوس الحياتيّ وفق إعتقاداته الشخصية لردود أفعالهم أكثر منها نصائح ممن حوله من العبيد، وهو ما يوجهه لعدة مواجهات مُباشرة مع أسياده، في الحين الذي لا يتجرأ غيره من العبيد على التفكير حتى بهذا، تلك الطبقات لكل منها منظورها الخاص عن ماهية ودور العبد الأسود في المجتمع، فهناك من لا يعترف بأنهم بشرًا ويشبّههم بعديمي العقول كالحيوانات التي تجر العربات، وهناك من يتظاهر بتقدير جهودهم والوثوق بهم بصورة شكلية وبدرجة أقل من الظلم، وهناك الجشع الذي لا يرحم المنتظر لتعثُّر بسيط منهم ليتلذذ بمعاقبتهم بشكل مجرد من الشعور.

هذا فيلمٌ يعرض طبقات المجتمع بين البيض والسود بالأساس؛ الشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد هي أساس أفعالهم، هي العماد التي يُستند عليه عند حدوث مشكلة ما، هي المُبرر ورمز كل شيء في هذه البيئة الانقساميّة الهمجيّة التي يحكمها الاضطهاد واللامساواة، والبحث عن المال بأي شكلٍ كان.

(مشاهد عاطفيّة قوية) هناك العديد من المشاهد القوية المُنفذة ببراعة شديدة من ماكوين تصوّر تلك الحالة من العدوانية الغير مبررة تجاه السود التي كانت عليها في منتصف القرن التاسع عشر، لعل من أبرزها مشهد نُباح أحد الأمهات بعد أخذها من ابنها وبيعها لأحد الملوك وسط عدم اهتمام أحدٍ بها، وعندما يطلب منها سولومون التوقف، فترد عليه -وهي غارقة في بركةٍ من البكاء-: "كل ما فعلته في حياتي هو أن وقفت أمام كوني ملكاً لأحد.. كيف فادتني هذه المقاومة؟.. لقد انتهيت هنا على أيه حال"، للحظة تشعر أن ماكوين قد خطف ابنها فعليًا لكي يُخرج منها هذه الحالة الشعوريّة الحادّة التي تضرب أُمًا فقيدة ابنها الوحيد وكل ما تملك في حياتها.

أيضاً هناك مشهد من أكثر ما أعجبني والذي يُبيّن عدم مجئ سولومون نورثوب من هذا العالم المُستعبد، وهو المشهد الذي ترى فيه من عفوية واضطراب وثورة سولومون الداخلية الكثير، ذلك عندما توقِعه أرضاً شخصية "بول دانو" بعدما حدث جدالاً شفويًا بينهما على عدم إتمام البناء الخشبي بالشكل المُفترض، بعدها ينهال سولومون عليه ضربًا بعد خطف سوطِه منه، يُفرِّغ كل ما بداخله من شحنات متضاربة من الكراهية والبُغض ضد البيض في هذا المشهد الدرامي الرائع.

هناك مشهد واحد تحديدًا تعمَّده ماكوين ليوضح فلسفة العرق الأبيض التي تحكمها المال، الحُمق، وعدم الاكتراث بشيء تجاه السود؛ بعد محاولة فاشلة من شخصية "بول دانو" لشنق سولومون بعد مجئ مجموعة من الرجال يُعارضون الأمر، نجد الجميع قد رحل من حول سولومون وقد ظل الرباط على عنقه وهو يقاوم محاولاً الوقوف والأرض من تحته مبللة بالطين، ظل هذا المشهد لحوالي دقيقة كاملة قبل يأتي أحدهم مُتخفيًّا لإسقاطه، هذا المشهد يوضح الكثير حقيقة؛ فلماذا لم يفك أحدًا ممن جائوا ليُنقذوا سولومون رباطه من على عنقه الذي أوشك على قتله؟، المخرج يريد توضيح أنهم يهتمون بشكليّات الأمور وليسوا معنيّين ببطونها إطلاقاً، هوّاةٌ متعجرفون، لا تؤنبهم ضمائرهم ولم يضعوا مسألة الإنقاذ في الحسبان من الأساس، لكن يفعلون على ما قد يتناحرون من أجله أي شيءٍ كان، تماماً كالذئاب بين بعضهم.

توظيف المخرج لأداء ممثليه كان عظيماً، الجميع فوق عادتهم، برأيي أبرز دور في الفيلم كان من مايكل فاسبندر في دور "إدوين إيبس" ملك الأرض المتغطرس المُستبد، أما لوبيتا نيونجو في دور "بيتسي" فلم تظهر إلا في مشاهد قليلة، ربما خمسة مشاهد فقط كانت كل ما ظهرت فيه، لكن بالتأكيد هناك هذا المشهد الواحد -الذي أعتبره من أقوى المشاهد السينمائية التي رأيتها يوماً- والذي أمال الكفّة بشكل كبير لصالحها وتوّجها بأوسكار أفضل ممثلة مساعدة آنذاك، فـ"بيتسي" ملكة الحقول كما يُطلق عليها، تقطف القطن أكثر من أي شخص آخر وتواجه العنف من زوجة مالكها شفوياً ومنه جسدياً، مغلوبة أمرها لا تعلم ماذا تفعل، تطلب من سولومون أن يقتلها ويرمي بجسدها في النهر لأنها سئمت الحياة ولا تقوى على قتل نفسها، تقول له: "لم أشعر بالراحة يوماً في حياتي.. الرب رحيم.. لابد وأنه عنده الرحمة في مكاناً ما آخر"، يرفض سولومون غير عالماً أنه سيغدو مُضطراً لتعذيبها في الصباح التالي، وذلك عندما يأمره ملكهُ بتمزيق جسدها بالسوط بعدما هربت الفتاة وقد قيّدها بالشجرة.

سلبيات الفيلم بالنسبة لي هناك العديد من الفجوات التي عكّرت من تجربة استمتاعي وقللت مما كنت أتوقعه من فيلمٍ ملحميٍٍّ كهذا.. أولها؛ عدم تقبلي شيوتيل إيجيوفور في دور الشخصية الرئيسية في العمل (سولومون نورثوب)، لا أنكر أن هناك عدة مشاهد كان ممتازاً بها وأوضح بملامح وجهه فقط كل ما بقلبه من ألم دفين، لكن أقصد إجمالاً لم أُصدّقه في هذا الدور وكانت هناك العديد من تلك اللحظات التي أصبح أدائه فيها أشبه بالمسرحي الميلودرامي؛ لا أعلم، لم أتعاطف مع شخصيته كما هو مطلوب، وثانيها في عدم استعراض جوانب من شخصيات الملوك -أو أيٍ من البيض عموماً- الذي عمل سولومون لديهم، فقط المعاملة السيئة، لماذا وما هي القواعد التي يستندون عليها؟ لاشيء.. أعتقد أنها كانت لتُبيّن أسباب ودوافع هؤلاء الملوك بشكلاً أكبر حتى في قيمتها الدرامية من مشاهد إجتماعهم مع السود المعنيين الأوليين بالقصة، ولتدفع بالقصة إلى مُنطلقٍ أكثر إثارة يورطني ويُدخلني في قلب حكاية بهول وفزع تجارة البشر بصورة أعمق.. لم يحدث، خصوصاً وأن مشاهد التعذيب ليست بالهيّنة وتُظهر أن هناك خلل ما في طريقة تفكيرهم وتستدعي السؤال "لماذا هذا بحق الجحيم؟"، وخاصةُ لأن أحدًا من هؤلاء ذوي البشرة البيضاء لم يُعامل كعبدٍ أويتورط كواحدٍ من السود عند موقفٍ ما صدر منه. توالي مشاهد التعذيب بصورها المختلفة لم يُضف للقصة الجديد، وكأن ماكوين كان يريد نقل واقع ما حصل فعلياً لسولومون أكثر من تشكيل قالب قصصي يجذب الجمهور إليه، أما ثالثها فقد شعرت ببعض الاستدراج العاطفي في المشاهد المؤلمة بأن أتورط فيما يحدث على الشاشة، لا أحب هذا.. وأبتذل الأسلوب حقيقةً وأوافق من يصفونه بأنه نوع من قلة الحيلة في كسب عواطف المتفرج.

أحداً قال لي ذات مرة أنه من الخطأ القول إن فيلماً ما فاز بالأوسكار من أجل رسالته أو أهمية موضوعه.. حسناً؛ لم يفز لذلك، لكن ورغم أني لا أري بهذا الفيلم سوى قصته الدرامية، على الأقل ليس بنفس قدر الاهتمام بطريقة تقديمه أو الشكل السينمائي، إلا أنه يظل فيلمًا جيدًا ومؤثرًا للغاية، وبالتأكيد هامًا للمُشاهدة من الوجهة التاريخية له، أعتقد أنه عليّ فقط اختيار الموعد المُناسب لمشاهدة مثل هذه النوعية من الأفلام.

وصلات



تعليقات