لطالما استبعدت فكرة أن يكون فيلم مغني الراب الشهير إيمينيم (8 Mile) قويًا أو به شيء يمكن أن يبهرني حقًا، ربما لأن غالبية الأفلام التي تُخرج مشهورًا ما على الشاشة الكبيرة تكون متواضعة المستوى، ولا يُلقى صُنّاعها هذا الإهتمام الذي يجعلك تتوقع منها شئٌ مميز، أو ربما لأني لم أُصادف أن قابلت أحدًا يتحدث عن الفيلم في قراءاتي السينمائية، لذا فقد كان الحال أن ظل الفيلم في الخفاء وسط مجموعة أفلامي، ينتظر مني يومًا ما أكون فيه مُستعدًا لمُشاهدة عملًا مقبولًا أو جيدًا على أقصى تقدير دون إنتظار ما هو أكثر من هذا..
جاء اليوم أخيرًا، وشاء القدر أن أُشاهد الفيلم لأكتشف كم كنت أحمقًا وغبيًا لأتركه طوال هذه المدة، ولأتبع تيّار ما تُمليه عليّ التقييمات الفيلمية على المواقع السينمائية الشهيرة.
الفيلم الذي أخرجه المُتوّج بالأوسكار قبل هذا العمل الأمريكي (كيرتيس هانسون) يدور حول (جيمي سميث/بي رابيت) الذي يحيا حياةً صعبة تملؤها المُعاناة والقسوة والفقر والثِقل النفسي، من جانب عمله وبيته وعائلته، ويواجهها مُتمسكًا بحلمٌ بعيد المنال بأن يُغني الراب، منبع شغفه وولعه الحياتي كمصدر للرزق، وليس مجرد هواية يفعلها في أوقات الفراغ.
القصة تسبح ضمن تيمة المُعاناة الحياتية وتأخد جانبًا ليس بالكبير تُسلّطها على عنصر (الموسيقى) وهو الأمرٌ المفاجئ بشدة حقيقةً من أفلام هذا الصنف، أن تنتظر قصةً من نوعًا ما في حالة وأجواء فيلمًا كهذا بدل من توقع -مثلًا- فيلمٌ آخر يوضع ضمن قوالب السير الذاتية أو يأخذ حياة بطلها بشكل تسجيلي لهو أمرٌ من ضرب الخيال، وهذا تمامًا ما يحصل هنا.
لعل المميز حقًا في العمل وأولى المُفاجآت هو القدرة التمثيلية المُبهرة التي يضعها إيمينيم -في سنه الثلاثون حينها- في شخصية متعددة الأبعاد مثل (بي رابيت)، الرجل الحزين والمقبوض داخليًا الذي يضطر للعمل في ورشة تصليح سيارات ليتمكن من جني المال بما لا يتناسب مع الموهبة الغنائية الفذة التي سنلتمسها فيه لاحقًا، ويُقيم في مقطورة أمه الصغيرة لفترة من الوقت مع إبنته الصغيرة (ليلي)، لأن الحياة تعصف به بعد أن ترك حبيبته مؤخرًا.. إيمينيم يُعطيك إحساسًا قويًا -بلُغة عينيه وطبعه الحازم الجاد- أنه لا يُمثل هنا بل يعيش فترة من فترات حياته القاسية متضاربة المشاعر، تلك الحياة التي أصبح كل شئٌ بها في لحظةٍ ما يسير ضده نقيض تمنياته ورغباته، حتى يصير الرجل في قلب دوّامة البؤس والقهر الحياتي الذي يفتك ولا يرحم قبل أن يغدو هذا الشخص ذائع الصيت الذي يعرفه كل هاوٍ للموسيقى وأغاني الهيب هوب والراب في وقتنا المُعاصر، ليس هناك لقطة واحدة تجده يبتسم أو ترى أسنانه فيها بالرغم من تغير الأحوال المعيشية قليلًا من حوله، إنطباعٌ واحد، نزعة شديدة العدوانية تجاه ذاته وممن حوله وغضبٌ ملحوظ على ملامح وجهه، نجده قبل المُنازلات الغنائية التي على وشك خوضها -كما الحال في المشهد الإفتتاحي شديد الروعة- ينظر لإنعكاسه في المرآة وعينيه تشُعّان شرارة وحقد ورغبة دفينة بتغيير مجرى حياة هذا الرجل أمامه الذي لا يستحق أن يكون وسط مجموعة الأوغاد الهوّاة هؤلاء، يُناشد الخلاص في لحظة نفسية صعبة ويخبر صديقه قبل أن يترك السيارة للذهاب لعمله صباحًا بأنه ينتظر اليوم الذي تتبدّل فيه الأحوال رأسًا على عقب ولا يضطر فيها أن يتذلل لأحد، أداءٌ مُصدَّق جدًا من إيمينيم يستدعي شد الإنتباه.
العجيب هنا أن قصة الفيلم لا تسير في درب الإستسهال الذي إختارته معظم -إن لم يكن كل- الأعمال التي تخلق حالة من التوثيق الروائي للمُغنيين الأمريكيين على إختلاف نوع موسيقاهم، هذا أمرٌ نادر فعلًا، لذا فعندما يحصل لابد من التريُّث والوقوف عنده قليلاً، القصة ذاتها قوية جدًا وتجذب المُشاهد في المُتابعة وإن كانت غير جديدة أو مميزة وسط أفلام هذه التيمة، الثقل الدرامي للحكاية هنا ليست أقل منها في تحفة دامين شازيل منذ ثلاثة أعوام (Whiplash)، ربما يتفوق عليه الأخير في اللغة الإخراجية والدور الأُستاذي للعملية المونتاجية، لكن فيلمنا هذا كقصة شخصٌ يبحث عن هدفه الحياتي من خلال الموسيقى ويحلم بالتغريد خارج السرب هو يحمل الكثير من المُشتركات مع فيلم شازيل، ولا يقل أبدًا في تقديري عن القوة القصصية به التي هي المعيار الأساسي للحديث عن الأفلام.
علاوةً على ذلك، فالفيلم يحمل جُرعة تحفيزية هائلة عن تيمة هذا الشخص الذي يسعى حول أحلامه، أو ذاك المُبدع الذي يملك موهبةً فريدةً من نوعٍ ما ويسعى لأن يجد المكان المُناسب الذي يحتويه ويُبرزه فيه، أو عن تيمة الشغف والولع بشئٌ ما في الحياة والذهاب خلفه بعيدًا عن طريق باقي القطيع وخارج النمط الحياتي التقليدي، الفيلم عموماً يحمل كمًا كبيرًا من المشاعر والنزعات الذاتية الداخلية، تمامًا كحال حياة إيمينيم الواقعية التي تلتمس بها كثيرًا من نبراته الغاضبة التي يُطلقها في كلمات أُغنياته شديدة الخصوصية والذاتية.
إذا سألني أحدهم عن ماهية هذا الفيلم، سأخبره أنه عن (المعاناة) لا عن الموسيقى، الأمر هنا ليس كما فعل (إف جاري جراي) مثلاً منذ عامين في فيلمه البيوجرافي الأشهر (Straight Outta Compton) الذي توغل فيه عن المؤسسين الروّاد لنمط أغاني الراب الأمريكية وسبح عميقًا في عوالمها الداخلية وقام بنقل شكل حياة هؤلاء مَن يستهوون نمط موسيقى الراب الذي يُعتبر شكلًا من أشكال الحياة ليس مجرد هواية عديمة التأثير المجمتعي أو الروحي حتى، الشئ الموجود في فيلمنا هذا لكن ليس بالقدر الذي يصنفه كفيلم عن الموسيقى.. فالموسيقى هنا -على إختلاف جوانبها- تتعلق بميول الشخصية البطلة بالأساس، وتساند النزعة الأوّلية للفيلم أكثر من كونها أداة لذاتها أو جانب ثانوي يتم إستعراضه في القصة، وهذا تحديدًا أكثر ما أُقدّره في العمل ككل: أن تختار الوسيلة الأصعب وأن تهتم بالدوافع وقوة الحبكة بالقصة بدلًا من الإستسهال هو أمرٌ يستحق الإحترام بكل تأكيد.
المُتابع الجيد أو ما يُسمَّوّن بالـ(المهووسين) بإيمينيم -كحالي- سيجدون لذة كبيرة في مُشاهدته يتألق غنائيًا وتمثيليًا خارج درب المعهود، لكن المهم أنه لا يستغل شيئًا كالشُهرة (التي لم تصل لذروتها آنذاك) على حساب هؤلاء الذين لا يعلمون كثيرًا عنه أو ممن لا يطيقونه هو والنمط الغنائي للراب حتى، الرجل هنا مؤدٍ بارع ومُغنٍ موهوب يلقى التحية لدوره لا على ما وراء الصورة بتاتًا.
صحيحٌ أن الفيلم خياليٌ مكتوبٌ، إلا أنه يحمل الكثير من الصبغة التوثيقية لحياة إيمينيم الشخصية التي برزت فيما بعد في أعماله الغنائية، الأمر الذي يمكن مُلاحظته في أغنية مثل (Headlights) التي يُشخِّص بها ندمه العميق ناحية والدته والمُعاملات المضطربة بينهم في الماضي، أو في مشاعره لصغيرته الحبيبة في (Mockingbird)، أو في علاقته مع حبيبته القديمة في أغنية (Stan) المُسجلّة قبل صدور الفيلم، أو في كل هذه الأشياء مجتمعة، واضعًا نمط حياته المُختلف خلفية له في أغنيته الشهيرة (When I'm Gone).. .. لذا فهُناك مذاق خاص للفيلم وإستقبالٌ حميميٌ ربما على هؤلاء العالِمين مُسبقًا لأشياء من حياة إيمينيم بالحديث عن نقلها سينمائيًا خارج قالب مقاطع الفيديو الغنائية.
الأغنية الذي يعتبرها الكثيرين -وأنا واحدٌ منهم- أنها الأفضل على الإطلاق في مسيرة إيمينيم (Lose Yourself) لديها قصة مثيرة بين طيّات فيلمنا هذا، فيُحكى أن إيمينيم كان يأخذ جَنبًا خاصًا بين القطعات التصويرية وفترات الإستراحة يقوم فيها بتدوين كلمات أغنيته الشهيرة التي استنزفته حتى النُخاع، الأمر الذي لم يكن مقتصرًا على كونه مثالياً بسبب مُلائمته لقصة شخصيته (بي رابيت) أو لأنها لن تأتي كاملةً إلا في التترات الختامية للفيلم كأنها في ذلك شبيهة بالرحلة التي تصل لذروتها في الختام، وصورة مُصغرة -ضمن سياق القصة- لحياة إيمينيم ذاتها: الفيلم وإيمينيم واقعيًا من جهة، والأغنية وبي رابيت قصصياً من الأخرى.. الفرصة الحياتية الواحدة التي يجب أكلُها أكلاً عندما تتسنى الفرصة لذلك كما تقول كلمات الأغنية، في الواقع تلك الأغنية تحديدًا التي صبّ فيها إيمينيم عُصارة هوسه ومُجمل إبداعه هي ما أطلقت له الشهرة الحقيقية وفتحت أمامه أبوابٌ كثيرة عقب خطفه لجائزة الأوسكار الغير مُتوقعة بالمرّة منه شخصيًا، والأولى لهذا النمط الغنائي في تاريخ المُسابقة.
الفيلم ضخ للشركة المنتجة ما يُقارب المئتان وخمسون مليون دولار نصفها قَدِمَ من أدوار العرض الأمريكية، وهو أمرٌ مُحفز بالتأكيد، فمثل هذا النوع ومثل هذه التجارب من الأفلام هي التي يحب أن يُشاهدها الجمهور، مثل هذه الأفلام هي التي تستحق تخصيص وقتٌ خاص لها باليوم يُترك فيها كافة الأشغال الأُخرى، فهي تحمل -وسط هالة الضباب وإنعدام الثرثرة الغريب حولها- جرعة تحفيزية مُغرية تُساعدنا على مواصلة الكفاح والقتال في حياتنا اليومية أمام أيا كان ما نريد تحقيقه يومًا.