"أرمل مخمور مُغرَق بالوحدة، يجلس - ليلة عيد مولده - داخل شقته الصغيرة منعزلًا عن الكون بأسره، تفصله دقائق عن بلوغ الثانية والأربعين من عمره. ومع ذلك لا يدور برأسه إلا ذكريات سعيدة أمست مُحزنة، ولا يراود مشاعره إلا الحزن والكآبة اللذيْن تركهما رحيل زوجته.. أخيرًا ينتشله من ظلماته جرس باب شقته؛ هناك من يطرق بابه في هذه الساعة المتأخرة، فيترنح مثقلًا بهمومه ليُجيب الطارق".
يفتح "ألكساندرو" الباب، ليجد أمامه شابًا مُتلعثمًا يبدو عليه الارتباك..
- نعم؟
يُجيب الطارق مُتلعثمًا:
= مساء.. مساء الخير
يتفحصه الأرمل مستنكرًا:
- ماذا تريد؟ ماذا تبيع؟ أنا لا أحتاج شيئًا في مثل هذه الساعة
= أنت السيد ألكساندرو؟
- نعم! أخبرتك أنني لا أحتاج شيئًا مما تبيع.. ثم من أنت؟ وماذا أتى بك في هذه الساعة المتأخرة؟! اذهب من هنا الآن
= أنا.. أنا.. أنا سباستيان عشيق زوجتك لوانا، عشيقها منذ خمسة أشهر، ربما أقل قليلًا أو أكثر قليلًا
تمر لحظات صمت قصيرة، تقطعها لكمة ألكساندرو في وجه الطارق الغامض بكل ما أوتي من قوة، ليسقط الأخير مغشيًا عليه.
هذا هو المشهد الذي تتفجر فيه استثنائية نَص فيلم Charleston - الذي عُرض ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي - ونصطدم خلاله بغرابة العلاقة التي ستجمع شخوصه.
يبدأ الفيلم بسيدة تحتسي مشروبًا في مقهى، ثم تتوجه للخارج متعجلة حتى تلحق بموعدها، فتصدمها سيارة مُنتشِلة منها حياتها. لنشهد بعدها زوجها ألكساندرو مكلومًا فاقدًا الشغف في كل شيء، لا يحاول أن يفعل أمرًا سوى احتساء ما أمكنه من الخمور. حتى ليلة عيد مولده، يقتحم أصدقائه المقربون فُقاعته محاولين إخراجه من تعاسته، فيشيروا له بأن هناك عالمًا في الخارج ينتظره، لكنه يرفض أن يُبارح آلام فَقده، وقد استحوذه أسى لا يرحم من بعد رحيل زوجته.
قصة عادية تمامًا، كثيرًا ما شهدناها من قبل، وبذات التفاصيل. لكن بعد أن يأتي "سباستيان"، الطارق الغامض، ويُفصِح عن سره الصغير بأنه عشيق الراحلة "لوانا" طيلة الخمس أشهر الأخيرة في حياتها. هنا يتغير كل شيء، وتبدأ علاقة استثنائية عجيبة تُعَد من أغرب العلاقات الممكنة، نشهد خلالها مواقف وتطورات إنسانية أكثر غرابة، دون أن يُبارح المنطق أقل تفصيلة! أنت تشاهد الحالة وتتماهى تمامًا مع تطوراتها، بل وتحبها للغاية.
نحن الآن أمام أرمل ترحل عنه زوجته، فتغمره الوحدة من بعدها ويُفطَر قلبه لافتقاد هذه المخلصة التي يعشقها. ثم يظهر عشيق لهذه الزوجة، لا يعلم ألكساندرو عنه شيئًا. ففي ذروة افتقاده لزوجته وحزنه عليها، يتبين له أنها كانت تخونه، ولها عشيقًا منذ خمسة أشهر أو أكثر. بل والأدهى، هذا العشيق - سباستيان - يتوجه له ويخبره الأمر، طالبًا منه أن يعينه على آلام فَقد عشيقته! لأن الدنيا ضاقت به بعد رحيلها.
تتركز قوة نَص الفيلم في استثنائية علاقته الرئيسية بين ألكساندرو وسباستيان، والتناقضات الكبيرة بينهما، رغم أن ما جمعهما هو حب ذات المرأة. وهذا ما برع في عرضه آندراي كرتولسكو مخرج الفيلم ومؤلفه، فتسلل ببطء إلى داخل كل شخصية منهما، وأظهر لنا أسرارهما بتمهل ذكي، وجعل المواقف بينهما هي من يفتح خزانة الأسرار، دون أن يركن إلى مبالغات أو قفزات سريعة وتطورات غير منطقية، بعضها قد تنتظره وتكون متأهبًا لتقبله، لكنه يفاجئك بأنه يورطك في الأمر ويغمرك بتفاصيله بعيدًا عن تلك التطورات المعهودة التي تتوقعها أو تنتظرها.
نعود إلى مشهد مُفتتح المقال. يُدخِل ألكساندرو سباستيان الغائب عن الوعي إلى شقته، ويُسجيه على الأريكة منتظرًا أن يستفيق.. يعود إلى سباستيان وعيه، فتنطلق المناوشات. طبعًا يبدأ الأمر برفض ألكساندرو تمامًا، وإصراره على طرد سباستيان خارج شقته شر طَردة؛ هو لا يقوى على احتمال نيران فَقده محبوبته، ولا يملك سوى إخمادها بما يتجرعه من خمر، فلا ينقصه أن يظهر عشيقًا لها وفي تلك الآونة تحديدًا. أما سباستيان فيفهم فظاظة فعله في أن يسأل أرمل عشيقته معاونته على تجاوز فَقدها؛ لكنه لا يملك أحدًا بعدها، ولا يعرف كيف يتعامل مع نيران فَقده، ويٌدرك أنه لن يشعر بمثل شعوره في الكون سوى زوج الراحلة، بل مُوقن بأن هذا الزوج تنحره وحدة روحه بعد رحيل لوانا، حتى وإن أبدى للجميع عدم الاكتراث والجَلّد. فلِمَ لا يتعاضدان في تجاوز هذه المحنة.
نتفهم الآن مدى تناقض بطلينا؛ ألكساندرو قوي لا يُحب الإفصاح عن وهن روحه، ولا يسمح بأن تهزمه وحدته، فيرى في الخمر ملاذه الأكبر لِما يستعر في دواخله. لكنه لن يصرخ طلبًا للنجدة، ولن يأمن لصدر يشكو إليه بعد رحيل زوجته، ولن يقبل بأن يساعده أحد. أما سباستيان، فهو طفل فقد مرشدته ومحبوبته، ليس له أحدًا بعدها، لا يخجل أن يتحدث عن آلمه ووحدته، بل سيصرخ أنه وحيد وأنه يفتقدها، سيتحدث دومًا عن أنه مكلوم وأنها كانت عالمه، بل سيذهب إلى زوجها ويخبره بهذا، ويطلب منه العون إن أمكن.
شخصيتان بمثل هذه التناقضات، يجمعهما حب ذات المرأة ومأساة رحيلها، كانا جديران بأن نشهد مواقف وردود أفعال مثيرة متعددة تودي بنا إلى تطورات وإنسانيات في علاقتهما لن تغادرنا بسهولة، والأجمل أنها تأتي بتمهل وطبيعية، دون إرغام أو إغفال منطق.
نرى ألكساندرو يتهكم دومًا من سباستيان، يحاول طرده كثيرًا ويهزأ من ضعفه ومدى اعتماديته. يتهكم منه فيصحبه معه في كل مكان: (الحانة، منزل عائلة زوجته، المتجر)، وحين يسأله الآخرون عن مُرافقه. يجيبهم ألكساندرو بابتسامة تهكمية مقتبسًا قول سباستيان: "إنه عشيق زوجتي منذ خمسة أشهر.. ربما أقل قليلًا أو أكثر قليلًا".
ونشهد سباستيان يرفض جهود ألكساندرو في إظهار عدم اكتراثه، يتحمل تهكماته. وكلما حاول ألكساندرو طرده، يقاومه ويخبره بأنه يدرك ما يُفتعَل داخله، ومقابل كتمانه سيتحدث هو أكثر، سيقول بأنه ضعيف من بعد لوانا، وأنه وحيد للغاية، وأن الكون ضاق به تمامًا.
أنت تشاهدهما وتنتظر هذه التحولات اللامنطقية المعهودة، والتفهم الذي سيعُم بينهما، والمواساة التي سيفيض بها كلُ منهما على الآخر، ومثل هذه الأمور. لكن هذا لا يحدث، حتى أنك بعد مواقف معينة بينهما، تصبح متأهبًا بالفعل لمثل هذه المبالغات وتعرف أنك ستحبها لو حدثت، لكن الفيلم لا يُقدّم على هذا، ويحرص على أن يحترس لخطواته حتى الرمق الأخير.
فمثلًا، في واحد من مشاهد الفيلم الجميلة، يقوم ألكساندرو بتشغيل واحدة من أغنياته المُفضلة، ويبدأ في التمايل عليها، لينضم له سباستيان ويتمايل معه، ثم ينخرطان سويًا في التمايل على الموسيقى، محاولان دفن حزنهما في أنغام اللحن. لا زال نفور ألكساندرو من عشيق زوجته موجودًا، ولا زال يعامله بشكل سيء. لكن في هذه اللحظة، يفوز الإيقاع وتنتصر الوحدة، فيتمايلان سويًا دون التحسب لأي أمور أخرى. أنت تصدق المشهد تمامًا، وتعلم جيدًا أنه طبيعيًا في مثل هذا الظرف. ثم يأتي المشهد اللاحق، لتجد ألكساندرو يسأل سباستيان عن اهتماماته، فيتلعثم الأخير، ولا يجد ما يخبره، فيعاود ألكساندرو تهكمه القاسي قائلًا: "توقعت هذا، لا أعلم ما الذي رأته بك لوانا!".
ثم يأتي مشهد آخر، يقومان فيه بأخذ بقوليات من المتجر والركض سريعًا هاربيْن بعدما اكتشفا أن المال الذي بحوذتهما لن يقضي احتياجاتهما، تتابعهما وهما يركضان وتضحك لهما. ثم في المشهد التالي، تجد ألكساندرو يزجر سباستيان ويطرده من جديد.. العلاقة تحتفظ بقوامها دون أي تحولات غير مُقنعة، والمواقف التي تنشأ بينهما وليدة ظرف معين، تكون صادقة جدًا ومنطقية.
قرب نهاية الفيلم، يقرر ألكساندرو إخراج سيارته الصغيرة واصطحاب سباستيان معه في رحلة لا يعلم الأخير وجهتها النهائية، وطيلة الرحلة تهكم ألكساندرو حاضرًا ويزداد، يقابله وهن سباستيان مع تساؤله عن مفاد الرحلة. ليتكشف له خلال المشوار أن ألكساندرو يصحبه للمكان الذي التقى فيه سباستيان بـ لوانا للمرة الأولى، يسأله سباستيان: "لماذا تفعل هذا؟.. لا تفعل هذا رجاء".. لكن ألكساندرو يواصل رحلته دون التفات له.
يجلسان معًا في نفس المطعم بذات الفندق، وعلى المنضدة عينها التي حدث بها لقاء سباستيان مع لوانا، ويستمعان لنفس اللحن. يشعر سباستيان أن ألكساندرو يعاقبه بإحضاره لهذا المكان واستجلاب ذكريات مثل هذه عليه. يحاول فهم ما يحدث، لكن ألكساندرو يتجاهله متجرعًا الخمر منصتًا للحن الشادي داخل المطعم.
بعدها يغيب ألكساندرو داخل الفندق، فيبحث عنه سباستيان ويسأل نادل الغرف عنه، فيخبره النادل بمكان غرفته، ونعرف منه أن ألكساندرو عميل الفندق المستديم ودومًا ما يصحب زوجته الجميلة لنفس الغرفة، وأن رؤيتهما سويًا بتناغمهما العذب من أقوى مُسببات السعادة، ثم يطلب من سباستيان أن يبلغ الزوجة تحياته.
يدخل سباستيان الغرفة وقد أدرك الحقيقة. ليجد ألكساندرو مختليًا بنفسه وقد بلغ نقطة الانفجار؛ لم يعد يقوى على التظاهر بالجلَد وعدم الاكتراث، فغرق في دموعه ونحيب بكائه. يجلس إلى جواره سباستيان ويضمه إلى صدره، فينفجر الأخير باكيًا دون تمهل، ليُخرِج في بكائه كل آلامه وذكرياته التي يحاول مداراتها منذ بداية الفيلم. لنشهد مفارقة إنسانية جديدة هي الأجمل في أحداث الفيلم، يقوم فيها عاشق الراحلة باحتضان زوجها، بينما يُودع الزوج كل أحزانه ويبكي مثلما لم يبكِ من قبل بين ذراعي عشيق زوجته.
بعدها نراقبهما وهما يوَّدعَان بعضهما، ليُسلًِم سباستيان مفكرته التي يدوّن بها ملاحظاته منذ بداية الفيلم إلى ألكساندرو، الذي لطالما سخر منها ومن ملاحظاته التي يدونها بها. فيُبادله ألكساندرو بنظارته الشمس، ويُصّر على احتفاظ سباستيان بها. يغادر سباستيان بُصحبة النظارة، ويجلس ألكساندرو على الدرج وحيدًا يقرأ تدوينات سباستيان، ثم تظلم الشاشة بهدوء معلنة نهاية علاقة من أعجب العلاقات الممكنة وأصدقها.
آندراي كرتولسكو كتب نَص فيلمه بتمعن وذكاء، وبرع في رسوم شخصياته. فلم يتوقف عند غرابة فكرته، بل دعمها بشخوص مثيرة للاهتمام، وصاغ حوارًا من أجمل ما يمكن؛ حوار ينضح بصدق مواقف أبطاله واتساقه مع شخصياتهم. ليجسد لنا سيربان بافلو دور ألكساندرو بتمكن مذهل، فتتماهى تمامًا مع حالته وتشعر بما يُظهره وبما يُبطنه في جميع مشاهده. كذلك رادو لاكوبان متميزًا في أدائه، يورطنا تمامًا في قلة حيلته وعفوية تصرفاته.
الفيلم جميل ودافئ رغم مأساوية مفارقاته، مواقفه إنسانية مؤثرة، والرابطة بين أبطاله عجيبة، وتطوراتها مُحببة وصادقة لا تُجافي المنطق. ستحب غرابة الأبطال، وستشعر بآلام فَقدهم، وستترقب تطورات علاقتهما في شغف، وستُصدقها مُدركًا أنها علاقة استثنائية جميلة، كان حزن الفَقد قائدها، وكانت الوحدة مُبرِّرها الأعظم.