بمجرد ذكر مصطلح "الواقعية الجديدة"، يأتي إلى ذهنك جيل مخرجي هذا التيار وهذه الموجة الجديدة في السينما المصرية مطلع الثمانينيات، الطيب، خان، داوود، بدرخان، بشارة، لكل منهم لغته السينمائية الخاصة التي تختلف مفرداتها لديهم، فلكلٍ سينماه، ولكلٍ سماته الأسلوبية التي يعبر بها عن "واقعيته الخاصة" برؤى متباينة ومتعددة.
ما يجعل لتلك المقدمة أهمية هو الإختلاف الشديد الذي يحمله فيلم "قدرات غير عادية" في صياغته لمصطلح "الواقعية"، فهي ليست "الواقعية" ذات البُعد الوثائقي الذي يحرص صانعها علي تصوير الحدث في الأماكن الطبيعية الحقيقية ليَخرُج الفن من وسط عشوائيات ومهمشين ( وإن كان قد استخدمها داوود نسبيا من قبل في "سارق الفرح")، وليست أيضا "دراما" تدور أحداثها بالكامل داخل أستوديو أو ديكور يُحاكي الواقع ويُقدِّم صورة بديلة مُقنعة له ("الكيت كات" كمثال) ولكن هذه المرة طزاجة واقعية "قدرات غير عادية" وحداثتها تأتي من خلال
أولا: فهم عميق للمجتمع وتقديمه بصورة شديدة الوعي.
ثانيا: الصدق الفني، الذي هو من أهم عناصر التيار السينمائي الواقعي، بل هو من ضروريات أي عمل فني، والمفارقة هنا أن فكرة الفيلم الرئيسية هي فكرة ذات طابع "فاتتازي" أو "خيالي" ولكن طريقة معالجة الموضوع جعلت الواقعية تخرُج من رحم الخيال، لتَضِف إلى المصطلح القديم وجه آخر حديث يُناسب العصر ..
أُرقص في الخلا، اهرع سعيدا منطلقا غير عابئ بشيء، أو اسبح فجراً وسط أمواج ليلة قارسة البرودة، حرر روحك وأطلق العنان لخيالك الجامح، تأمل مشهد البحر الساحر اللانهائي، دع هوائه يلمس وجدانك واشعر به يتغلغل داخل نسيج جسدك، غني بصوت مرتفع، أو ارسم لوحة تُعبر عنك، اعتَزِل صَخَب المدينة وانطلق بعيدا، لا تهتم بنظرات قبيحة جاهلة تُفسد عليك لحظاتك السعيدة، ولا تَسمح لعقل متشدد أن يُصبغك بأفكاره السفيهة فيجعلك تشبهه، والآن يمكنني أن اهنئك! فقد أصبحت صاحب قدرات غير عادية.
دون مقدمة منطقية معتادة أو مطوّلة تبدأ أحداث الفيلم "بحدث مفجر" أو كما يُسميه كتاب السيناريو "حدث محوري" أو "نداء رحلة البطل" (The Call Of Journey) وعن طريق الأسلوب السردي المفضَّل لدى "داوود" منذ "مواطن ومخبر وحرامي" وهو أسلوب "الراوي"حيث تروى الأحداث عن طريق شخصية الفيلم الرئيسية "الدكتور يحيى" وما يميز هذا الأسلوب هو ربط فن السينما بالأدب خاصة فيما يخص النفاذ إلى أعماق الشخصية والتعبير عن ما يدور داخل عقلها، تبدأ نقطة البداية بإلقاء "الدكتور يحيى" مباشرة داخل الرحلة دون إغراق في تفاصيل لا تتطلبها الدراما أو اسهاب في رسم شخصيته، "يحيى" يقوم ببحث علمي هدفه إيجاد أصحاب القدرات الغير عادية، كان يبحث عن مبتغاه في نطاق دائرته الضيقة، وسط عالَم مقيد، خانق، محدود، عالَم لا يُمكنه إفراز هذا النوع من أصحاب القدرات، فلم يجد أدنى مستوى منها، ولم يجد سوى الحيل والخداع (على حسب وصف يحيى)، وعندما صرح بفشله في الوصول إلى هدفه، نصحه أستاذه بتغيير آليه البحث ولكنه أقترح له آلية بحثية تَليق بالعالَم الخانق المحدود، آلية لا تُناسب أشخاص لديهم صفات خاصة أو مُمَيّزة، ليقرر يحيى الابتعاد قليلا عن هذا البحث وهذه المهمة، عله يجد ضالته في البُعد، و يَعرِف سبب الإخفاق، يخرُج "يحيى" من عالَمه المعتاد ويدخُل عالَم جديد له طبيعة خاصة، عالَم أكثر تحررا وهدوءا وأقل ضجيجا، سافر "يحيى" في عطلة قصيرة وقصد بانسيون صغير للإقامة، بانسيون له تفاصيل بصرية ثرية بدأت مع اللون المميز لجرس بوابته، تلك البوابة التي هي بمثابة بوابة دخول "يحيى" لعالَمه الجديد، البانسيون يقع جغرافيا في موقع ساحر على البحر مباشرة في إحدى مناطق محافظة الإسكندرية، ويقع رمزيا/فلسفيا، في مكان ما مُنعزل تحاوطه الطبيعة والبحر، والطيور الحرة الطليقة، بانسيون يُجسد العُزلة، نزلائه ذات بعد سوسيولوجي وسيكولوجي مُختلف، ولكن ما يجمعهم هو شيئا واحد .. "الفن"، فجميعهم يجيدون شكلا من أشكال الفنون، وأهم ما يُميز هذه الشخصيات الفنية المختلفة هو مبدأ تقبل الآخر الذي يعتبر أساسا لعلاقتهم فهم يعرفون جيدا كيف يتعامل اصحاب الأيديولوجيات المختلفة، فخلافهم ذات صبغة راقية، ومشاداتهم الصباحية لا تكون بسبب قطرة ماء لغسيل منشور، أو قمامة رُميّت دون وعي، أو مرحاض تنشع مياهه من جار لآخر، ولكن أشرس خلاف لهم لا يتعدى خلاف حول صوت غناء عالي بإمكانه أن يُزعج الكائنات البحرية، فمن الطبيعي أن يسفر هذا الرقي عن تربة خصبة تَنبُت بها "قدرات غير عادية"، يقابل "يحيي" الطفلة "فريدة" وهي ثاني الشخصيات الرئيسية في الفيلم وهي تُمثل الضلع الأهم من مثلث علاقات الفيلم المكون من يحيي (خالد ابو النجا) فريدة (الطفلة مريم تامر) وحياة (نجلا بدر) ، فريدة هي النموذج الذي تتجسد فيه "القدرات الغير عادية" افرزتها بيئة محيطة تتسم بالشاعرية والحرية والفن، وعندما تُقابل "يحيى" للمرة الأولى تُرحب به بجُمل حوارية توحي بأنها كانت في انتظاره أو ربما قُدراتها المميزة هي من جعلتها تستدعيه ليدخل عالمها الخاص الذي هو نفسه العالَم الذي يحتاجه "يحيى" ويبحث عنه، يكتشف "يحيى" قدرات الطفلة "فريدة" ويقوم المُخرج بزرع إيحاء مبكر بأنها هي صاحبة الهيمنة في أحداث الفيلم القادمة ( وهو ما تم التعبير عنه سينمائيا في اللقطة التي تقف فيها فريدة في مقدمة الكادر في منطقة يُطلق عليها في قواعد التكوين المنطقة الذهبية وفي الخلفية يقبع يحيي متابعا ومكتشفا لقدراتها)،
بعد وصول يحيى للبانسيون، والتعريف بشخصيات النزلاء، وعرض مدى انسجامهم معا فضلا عن عرض البيئة المحيطة وما بها من قوى جهل رافضة لكل أشكال الفنون تأتي نقطة الحبكة رقم ١ (Plot Point 1) (نقطة تقع في الفصل الأول من السيناريو تدفع أحداث الفيلم في إتجاه مغاير) وتتزامن هذه النقطة مع مشهد (دعوة جبريل) وما تَبِعه من جهر بقدرات "فريدة"، لتُعلن هذه النقطة عن انتهاء الفصل الأول من الفيلم والبدء في الفصل الثاني (فصل الصراع)..
"فريدة" تمتلك قدرات غير عادية ولو ظل الأمر سرا فلا يوجد أدنى مشكلة وبالتالي لا يوجد صراع وبالتالي لا يوجد فيلم، ولكن لأن قدرات فريدة قد انكشفت علي الملأ، بل وجاء اليها مُريديها تحت شرفة منزلها (في مشهد يُعبِّر بسينمائية خالصة عن قيمة قوة فريدة التي تقف مثل ولي مبروك له كرامات ويتجمع حوله المريدين والحجاج) من هذه النقطة تبدأ ملامح الصراع الدرامي في التشكل فهو صراع من أجل استغلال قوة "فريدة" وتوجيهها لخدمة مصالح بعينها، (تماما كاستغلال قوة أسد السيرك أو إخمادها وترويضها)، تزداد أهمية الحصول على قدرات "فريدة" وتزداد أهمية البحث عنها، لكن ولأن الثمرة لا تَنبُت في تربة قاحلة، فلا مكان لقدرات "فريدة" بعيدا عن عالَمها الحر، واستغلالها في غير مكانها الفطري حتما سيؤدي بها إلى الانتكاسة و الانهيار.
خلال أحداث الفصل الثاني نعلم أشياء أكثر عن "حياة" والدة "فريدة" وتظهر للشخصية خلفية وماضي"Back History" لنعلم أن "فريدة" قد ورثت قدراتها من والدتها "حياة" "التي كانت تتمتع بمثل هذه القدرات عندما كانت فنانة ورسامة، ولكن قدراتها قد نضبت وجفت مع جفاف ريشة رسوماتها، ومَن أعاد إحياء هذه القدرة مرة أخرى هو ظهور "يحيى" وكأن "يحيى" و"حياة" هما الامتداد الطبيعي "لآدم وحواء" يُكمل كل منهم الآخر، تبدأ محاولات كثيرة للحاق ب"حياة" و"فريدة" ومطاردتهم في كل مكان، تهرب "حياة" مع "فريدة" حفاظا علي حريتهن، ولكن اليأس يتسلل إلى "حياة" فتُسلِّم نفسها في نهاية المطاف، وتَدخل في نفق الشرود والخوف، فلقد تبعثرت الأوراق واُنتُزعت أضلاع المثلث من عالمهم الهادئ، فأصبح "يحيى" في مكان و"حياة" و"فريدة" في مكان آخر، ومع هذا الفراق يغمُر طوفان عدم الثقة كل شيء، ويتجلى الشك وينال من يحيي، فتتطلع روحه لإعتزال كل ما يؤذيها، ويحاول إعادة ترتيب الأوراق والوصول إلى إجابات لأسئلة كثيرة في ذهنه، واكتشاف أشياء وقيم قابعة داخله لم تكن معروفة، فمع الشك تبدأ رحلة التعرف على الذات، وهنا تبدأ متتالية بارعة (Sequence) من أهم متتاليات السينما المصرية عبر تاريخها مجموعة مشاهد متعاقبة لمريدين أضرحة الأولياء، ومشاهد للذكر وللطرق الصوفية يصاحبها شريط صوتي ساحر تم مزجه بمهارة فائقة، يحتوي على صدى أصوات متداخلة جمعت الغناء مع الإنشاد الديني بموسيقى تأتي كظلال في الخلفية، والنتيجة مجموعة مشاهد متتالية ساحرة علي المستوى البصري/ السمعي ذات طابع شعري حالم، ولحظات روحية صافية، ينهيها ويعكرها مشهد استدعاء "يحيى" إلى مكتب "عمر البنهاوي" وهو الشخص الذي سعى وراء "فريدة" للاستفادة من قدراتها، ليَعرف :يحيى" أن "عمر" قد حصل على ما أراد وتزوج من "حياة" لضمان قدرات "فريدة" وهم يعيشون الآن جميعهم في منزل جديد، ولكن "فريدة" لا تستطيع التأقلم مع حياتها الجديدة، حينها تبدأ سلسلة مشاهد تُعبر عن رفض فريدة لواقعها الجديد، وهذا الرفض أما معنويا بسكوتها وتتدهور حالتها الصحية، أو ماديا عن طريق استغلال قدراتها لتدمير هذا العالَم البغيض بالنسبة لها، وهو ما أدى إلى حتمية تركه بلا رجعة ..
ليبدأ فصل الفيلم الثالث وهو ما يعرف بفصل (حل الصراع) أو (النهاية) تأخذ الأحداث طريقها إلى نقطة الحبكة رقم ٢ (Plot Point 2) (وهي نقطة في سيناريو الفيلم تقع في الفصل الثالث قبل الذروة مباشرة وتعرف بنقطة اللاعودة) فيها تقرر "فريدة" رفض عالمها الجديد وتطلب العودة مرة أخرى الى منزلهم المطل علي البحر وهو ما يحدث بالفعل، ثم تأتي ذروة الفيلم مع مشهد الكشف عن الحقائق الذي فيه يجيب "عمر البنهاوي" "ليحيى" عن كل الأسئلة التي كانت تشغل بال "يحيى" وبالتالي تشغل بال المُشاهد، ويؤكد له انفصاله عن "حياة" و"فريدة" وهنا تشعر كمُشاهد أنك امسكت بخيوط الفيلم كاملة ولا ينقصك سوى مشهد الحل أو النهاية، أو الإجابة علي سؤال ماذا سوف يفعل يحيى بعد ذلك؟ وما موقفه تجاه "حياة و"فريدة" خاصة بعد أن قامت "حياة" أو "فريدة" أو كلاهما باستدعائه مرة أخرى بإستخدام قدراتهم وهذا ما أوضحه مشهد الطفلة الصغيرة التي قابلها "يحيى" صدفة في شوارع القاهرة وقالت له أن "فريدة مستنياك عند البحر "، لتأتي النهاية بعودة "يحيى" إلى العالَم الذي جذب روحه، وعثر فيه على ذاته، ووجد به من أحب، فيعود إلى البانسيون مرة اخرى، وشنطة سفره الكبيرة تؤكد أن إقامته هذه المرة سوف تكون إقامة طويلة، وأنه أختار الموهبة وراهن على الفن، اختار الطبيعة والبحر والغناء، اختار أن يتمرد ويخرج من الصف المزدحم، اختار السباحة عكس التيار، اختار أن يختلف عن الغالبية والعوام، فقد أيقن أن الإيمان بالاختلاف يفجر داخل المرء قوة كامنة ويوقظ لديه قدرات غير عادية.
ملحوظات علي الهامش:
١- يحيي المنقبادي هو بطل مشترك في أرض الخوف، رسائل البحر، قدرات غير عادية، ويبدو أن الشخصية، في الثلاث أفلام بها صفات مشتركة غير الاسم، أو إنهم ثلاثة وجوه لعملة إنسانية واحدة..
٢- ثمرة التفاح دائما ما تجد لها استخدام درامي في أفلام "داوود" (قدرات غير عادية، رسائل البحر، أرض الخوف، الصعاليك)
٣- في أول استخدام من دواوود عبدالسيد لسينما الديجيتال، وليس الخام السينمائي السيليلويد شعرت بالصنعة في بعض المشاهد وشعرت بتاثير سلبي بغياب الخام..
٤- مشهد تقديم شخصية حياة عن طريق الراوي كان ينقصه تصوير تفاصيل للشخصية بدلا من اللجوء لإبطاء اللقطة في المونتاح لبقائها وقت أطول على الشاشة لتحقيق معادل بصري فوق السرد السمعي..
٥- تفصيلة دموع حياة في مشهد القبلة أضافت للمشهد، ونقلت صراع الشخصية الداخلي..
٦- كنت أُفضِّل أن يُحذف التعليق الأخير "ليحيى" الذي يقول فيه " مش جايز كل دول عندهم قدرات غير عادية " لِما يحتويه من تفسير مجاني للمضمون الفكري للقصة فضلا عن الاعتماد على الحوار لإيصال المعنى على حساب الصورة وهو ما لم نعتاده من المخرج داوود عبدالسيد..
٧- فيلم قدرات غير عادية وما يحتويه من مضمون فكري يكشف عن سبب تأخير مشاريع "داوود" السينمائية، فما يحتويه الفيلم من أفكار يؤكد على أهمية مرحلة الإعداد بالنسبة لأفلام داوود..
فيلم : "قدرات غير عادية" بطولة : خالد أبو النجا، نجلا بدر، الطفلة مريم تامر تأليف وإخراج : داوود عبدالسيد إنتاج: ٢٠١٤ الفيلم تم ترشيحه لجائزة المهر بمهرجان دبي السينمائي الدولي.