في هذه المقالة، سأحاول بسط العديد من اﻷفكار حول فلسفة هذا الفيلم الياباني اﻷيقوني، صحيحٌ أنه من الظلم قصر الفيلم على فلسفته، كونه يحمل الكثير من الأشياء التي تستحق عمل دراسات مفصلة عنها؛ كالتكنيك الإخراجي، اللغة السينمائية السابقة لعصرها، آليات سرده.. لكني هُنا سأقوم بنظرة مُقرّبة -ومنصفة، أأمُل- لفلسفة "راشومون"، ولاشيءٍ آخر سوى ذلك.
قصة الفيلم تدور حول واقعة واحدة تحدث -وهي موت مُحارب ساموراي واغتصاب زوجته من قبل قاطع طريق في إحدى غابات اليابان النائية- لكنها تُحكى عبر أربع مناظير مختلفة، كلها تحتمل التصديق والمعقولية. . .
لا أتذكر أبدًا أثناء مُشاهدتي لهذا الفيلم، منذ عدة شهور مضت، أنه أثار فيّ كل هذه الأفكار التي طاردتني فيما بعد.. شيء غريب قليلًا، في الواقع لقد قرأتُ الكثير عن الفيلم وفلسفته قبل مُشاهدته، بل أني كنت قد استمعتُ -في واحدةً من المحاضرات الهامة عن تحليلات سرد الأفلام وما شابه- لنوعية سرده ببضع التفاصيل، والحقائق التي خَلَفها الفيلم على السينما. أتذكر أحد أصدقائي قال لي بأن أذهب وأُشاهد هذا الفيلم عندما سألته؛ ما معنى "الدراما التكعيبية"؟ (أي باختصار، كنت أعلم كل ما في القصة من أحداث، وحدها التجربة البصرية هي التي كانت تنقصني).. لكن ومع كل هذا، أثناء متابعتي للفيلم، لم أتواصل فكريًا مع فلسفته/نظريته بالقدر الكبير الذي حَصُل بعدها، علمتُ فيما بعد أنّ "نسبية الحقيقة" هو الاسم الذي يُطلَق عليها.
وها أنا أعترف، من المستحيل معرفة نسبية الحقيقة بدون مُشاهدة الفيلم، اقرأ كما تشاء عن فلسفته، لكن السينما أمرٌ آخر، دراميّة الفلسفة أمرٌ آخر.
هُناك شيء آخر هام هُنا، الفيلم يريد دحض فكرة الحقيقة الواحدة، أو الثابتة.. أليس هذا قريبٌ أيضًا من فكرة المعالجات المختلفة للقصة الواحدة؟، أو القراءات النقدية المختلفة لذات الفيلم؟.. اﻷمر لا يتعلق فقط بالفلسفة، بل يقف جنبًا إلى جنب مع الفكرة البديهية البسيطة لـ"تعدد الرؤى والمناظير لذات الشيء الواحد"، بل هو يستمد قوام فلسفته على هذا العامل (وهل من نسبية للحقيقة بدون تعدُّد في المناظير!)، الفكرتان -غياب الحقيقة، وتعدد المناظير- يشتركان في ذاتيّة الشخص الذي ينظر للأمور. هذا الشخص، كأنه مُبرمج على تصديق شيءٌ ما حتى لا يفقد صوابه، ولن يثق في أحدًا غير منظوره وحدسه وفلسفته الخاصة (التي يراها هو اﻷنسب لنفسه).. إذن، نحن نتحدث عن شيء يفتقد تمامًا للموضوعية والحيادية.
ربما هذا أكثر ما أثارني بالفيلم، فلِكي يتمكن "أكيرا كوروساوا" بتبيان حقيقة فلسفته (الحقيقة هي أنه لا يوجد حقيقة!).. قام بالغوص في الجماعات كي يؤكد أن كيفما نحن مختلفون في الشكل والجنس واللون، نحن أيضًا، مختلفون -ربّما لدرجة صعبة التصديق- في اﻹطار الفكري العام الذي يربُطُنا: أبسط اﻷمور قد تُقابَل بجدالات لا تنتهي، فقط ﻷن كل فرد يسمع صوته الداخلي ولا يهتم بالمثل لصوت اﻵخرين، أو على اﻷقل سيهتم بالاستماع للآخر بلا تمحيص. من هذه الفكرة البسيطة لا أحد من الشخصيات اﻷربع (قاطع الطريق - الزوجة - روح الزوج التي تستحضرها المحكمة - الحطّاب الذي كان شاهد عيان على ما جرى)، سيسرد واقعة موت الزوج واغتصاب الزوجة من منظور غير منظوره الذاتي البحت، رغم أن رؤاهم المختلفة تلك من المفترض -بديهيًا ومنطقيًا- أن تُزيد من توثيق اﻷحداث. لكن هذا لا يحدث، ﻷنه مَن سيثق في أحدًا غير نفسه؟، أو باﻷحرى: لما قد يكذب أحدهم -خاصةً الزوح الميّت- أمام فعل مصيري كالشهادة أمام المحكمة؟
تخيّل مثلًا، أنّك في مكان مليء بمختلف أنماط البشر كمحطة القطار، هناك حادثة ما حصلت منذ دقائق وأنتَ قد وصلتَ متأخرًا. جرّب أن تسأل مَن حولَك ما الذي حصل؟، ستندهش من كمّ النُسخ المختلفة للواقعة، فكل شخص عندهُ تفسيره الشخصي المُقنِع -له هوَ- لما حَدَث. شيء آخر مهم: كل شخص سيسرد ما رآه فقط، لم يكن الجميع موجودين منذ البداية؛ نزعك لشيء ما من السياق سيُغيّر منظور الحكاية تمامًا، تغيير منظور الحكاية، سيُحدث تغيير في فَهمِها، وفي تلقّيها، وفي كل شيء آخر متعلّق بها (لاحظ أن هذا الحديث ينطبق على الشخص الواحد، فما بالك بسرد اﻷمر على عدة أشخاص).
إن كان لهذا الفيلم تأثير واحد أحدثه عليّ؛ فهو أنه جعلني أسأل، هل يمكن ألّا أكون متشدد في فلسفتي وأن أخرج من قالب نفسي بأي حال من اﻷحوال؟. هذا الفيلم يريد جعل الناس تضع (الفهم) أولًا وأخيرًا عند التعامل مع هكذا مُعضلات؛ كعندما توضَع في دور القاضي (الذي هو دورُنا نحن المُشاهدين طوال مدة الحدث، لاحظ مثلًا تعمُّد كوروساوا عدم إظهار وجه القاضي أبدًا) للحُكم على شيء لا يحتمل الموضوعية وإن كان يحتمل القليل من الفِهم، فِهم لماذا قد يسرد الجميع ذات القصة بأشكال مختلفة دون ايجاد ضغينة في ذلك.. هل معرفتنا بتلك اﻷمور يمكن أن تُزعزع إيمان الشخص تجاه ذاته؟، تجاه ما يؤمن به وما يفعله ليل نهار؟.. ﻷنه "تربى على هذا"، فأين هو -حقيقيًا- من كل هذا؟، هل الحقيقة هي ما يراه اﻵخرون عنا أم ما نرى أنفُسنا عليه؟، وما مدى موضوعية ونزاهة آراؤنا في أنفسنا؟.. كلها أسئلة مثيرة يطرحها الفيلم.
هذا أكثر تساؤل كان على ذهني قبل مُشاهدة الفيلم؛ كيف يمكن أن تكون للحكاية الواحدة أربع مناظير مختلفة مُقنعة؟، في الحقيقة الفيلم لا يُقدّم الرؤى اﻷربع للحكاية بذات اﻹقناع (ولاحظوا أن هذه المعلومة انطباعية مني وليست حقيقة هي اﻷخرى!!)، بل أن هُناك الحكاية اﻷكثر منطقية، واﻷخرى اﻷكثر مفهومية، لكن جميع تلك الزاويا من الحكاية لها براهينِها ومُبرراتها القوية، وإن اختلفوا في قوتهم عن بعض، وهو اﻷمر المنطقي تمامًا بالتأكيد، فعلى المُشاهد/القاضي أن يختار حكاية واحدة ليست هي "الصحيحة" وإنما "اﻷصح" بالنسبة له. اﻷمر لم يعد يتعلق بطبقتين كاﻷسود واﻷبيض، الخير والشر. مثلًا، إن أردت تصديق قصةً من القصص اﻷربع، سيكون هذا بسبب الكفة التي تميل أكثر ناحيتها، لا عدم واقعية/منطقية باقي القصص.. هُنا، في هذا الفيلم، التعبير المثالي لجُملة: كل شيء يمكن أن يحدُث !!
هذه الفلسفة التي حاوَلَت تفكيك نظرية النسبية ﻵلبرت آينشتاين التي أطلقها في بدايات القرن العشرين -في الحين الذي صُدِرَ هذا الفيلم بـ۱۹٥۰- عن نسبية الزمان، حيث من المستحيل قياس الزمان/الحقيقة بدون النظر إلى المكان/زاوية الحدث. وأن الزمان يتغير بحسب طبيعة المكان التي تتغير حسبه الجاذبية والكُتلة وكل شيء معها. أو، فكرة أننا لسنا وحدنا في هذا الكون، وأننا مهما وصلنا لشيء مُعيّن، فإنه مجرد ما نعلمه/نفهمه/نراه مِنه (القطعة المُقتَطَفة من الحكاية).. لكن، هل هي الحقيقة الحقيقية؟ لا.
لاحقًا، وبسبب فلسفة الفيلم المُقترنة بطريقة سرد الـ"فلاش باك" به، حيث القصص كلها تتطلب استرجاع اﻷحداث الماضية، ومُحاولة التفكير والتذكُّر، استعان عِلم النفس بهذا الفيلم ﻹطلاق ما أسموه بالـ Rashomon Effect أو "تأثير راشومون"، حيث يُنظَر إلى اﻹنسان ذاته باعتباره وسيلة غير مُنصفة لاستدعاء ذكريات ماضيه، وأن الوعي واﻹدراك يكمُن في رأس الشخص، بحيث لا يُمكن فصل ذاته عن بعض الترسبات والخواص المحفورة في صميمه -التي اكتسبها على مدار مشواره الحياتي- والتي تجعل من عملية استدعاء تلك الذكريات بشكلها الحقيقي الفعلي، ضربًا من الخيال؛ بسبب شدة حضور الجانب الذاتي في الموضوع، فهو سيراها بتحليلهُ ومنطقهُ على أية حال، وعندما يروي أحد اﻷحداث الماضية المُخزنة في ذاكرته، سيُسقط عليها الكثير من لا وعيه ولا شعوره، فتكون الصورة المحكيّة على لسان هذا الشخص، هي خليط من شيء لم يكن يومًا حقيقيًا أبدًا، وتُصبح العاطفة والمنطق كيانًا واحدًا بدلًا من اثنين.
هذا التحليل ينظر للأمور من الناحية العِلمية والسايكولوجية، بغض النظر عن الجانب اﻷيدولوجي أو المَذهبي الذي عليه هذا اﻹنسان.. فما بالك بالنتيجة إذا كان بالفعل أحد أنصار واحدةً من تلك المذاهب، كالعلمانية أو النَسَويّة أو الاشتراكية؟
وعلى غرار اﻷفلام ذات اﻷشكال السردية المميزة، كحال (Pulp Fiction) ذو السرد العبثي، أو (Memento) ذو السرد العكسي، أو الحديث (Paterson) ذو السرد الدائري، هُنا نمط السرد يُعرف بالتكعيبية (والتكعيبية هي حركة فنيّة ظهرت بفرنسا أوائل القرن العشرون)، وفيها يتم استخدام مناظير مختلفة أو زوايا عدة لحكي قصة واحدة.. هنا، مثلًا، إذا تخيّلنا الشكل البياني الذي يمكن على السرد أن يكونه، فسيبدو أقرب إلى رسمة وردة بأربع فروع، حيث كل فرع هو منظور من الحكاية. هناك نظرية أخرى مثيرة قرأتُ عنها تصنِّف سرد هذا الفيلم من الناحية الزمنية، كحال شكل ساعة الـ"بيـج بيـن" بلندن؛ بمعنى أنه بمرور الوقت في الساعة/الفيلم، يتكوّن لديك منظور مُعيّن (ومُؤقت) للحكاية، وتدريجيًا وبمعرفة المناظير اﻷخرى في الفيلم، يتكون لديك تصوّرات انطباعية محددة (غير نهائية). بحيث، وحينما تصل الساعة إلى رأسها -أي أن تمر ساعة زمنية/أربعة أرباع- تتداعى كل اﻷفكار التي تكوّنت سابقًا في عقلك مُشكّلةً شيئًا جديدًا كليًا.
هذا من نوع اﻷفلام التي تعتمد على التفكير اللاحق أكثر بكثير من التفكير اﻵني بِها. هناك اﻷفلام التي تسمع عنها عبارات من قبيل "نسيته بمجرد أن انتهى"، هذا الفيلم يفعل العكس؛ يجعل من فلسفته تلك طريقة للنظر إلى اﻷشياء الحياتية، طريقة لفهم أنفُسنا ومدى ذاتيّتنا، وبالمقابل في المنظور الكبير، ينسف فكرة الحقيقة الواحدة، لتكون مقترنة -دائمًا وأبدًا- بلسان قائلها.. هي السينما في أعظم تجلّياتِها الفلسفية. وفي نهاية المطاف لا يعلم الحقيقة كاملةً إلا الواحد الأحد.