يُقدم رمضان على السخرية من نفسه بجرأة لم يقدم عليها من قبل سوى فريد شوقي.
مهما كان تقييمك لحجم موهبته أو موقفك من شخصيته المثيرة للجدل، لا يمكن إنكار كون محمد رمضان ظاهرة فنية لا يمكن تجاهلها، بأفعاله الصاخبة ـ والمستفزة أحيانًا ـ واختياراته التي لا يزيد عن الانتقادات الموجهة لها سوى إقبال الجمهور عليها. لا يهمنا هنا المعركة المؤسفة المشتعلة بين صنّاع فيلم رمضان الجديد "الديزل" وصناع فيلم تامر حسني "البدلة"، الصراع الذي بلغ درجة مفزعة من العبث ليس فقط لتدني اللغة المستخدمة فيه بين صناع فن، ولكن لأنه صراع تافه حول عدة ألاف أعلى أو أكثر، بينما الحقيقة التي يراها من يذهب للصالات وتكشفها الأرقام الصادرة عن الطرفين أن الفيلمين ناجحان، لكل جمهوره الذي يُقبل عليه ويملأ صالاته. لكنه هوس الرقم واحد الذي بات يتحكم في الكثير من القرارات داخل الصناعة.
من حق كل شخص أن يتفق أو يختلف مع محمد رمضان، أو يعتبر نجوميته ظاهرة غير صحية، لكن الخطأ المتكرر الذي يقع فيه أغلب المنتقدين هو التعالي على أعمال يشاهدها الملايين ويتأثرون بها. وخلال أيام العيد قرأت عشرات التعليقات اللاذعة ضد فيلم "الديزل" أصحابها جميعًا لم يشاهدوا الفيلم، لكنهم وجدوا أن فيلم بطولة محمد رمضان وإخراج كريم السبكي وإنتاج والده أحمد السبكي هو عمل لا بد وأن يستحق الانتقاد بشكل تلقائي.
الحقيقة إنه ما من عمل في العالم يمكن أن ننتقده دون أن نشاهده بعناية، والدليل هو مستوى "الديزل" نفسه، الفيلم الذي يقدم لمشاهديه مفاجأة سارة على مستوى العالم الفيلمي والحبكة والتنفيذ ربما لم يكن أكثر محبي رمضان والمدافعين عنه يتوقعها؛ فالفيلم ـ رغم عيوبه ـ يظل فيلمًا جماهيريًا شيقًا، متقن الصنع، بعيد كل البعد عن عالم البلطجة الذي تحركت شهرة رمضان منه فظل يطارده حتى في أعماله البعيدة عنها.
من ملك الترسو إلى "نامبر وان"
تبدأ الأحداث بمهمة بوليسية يقوم بها البطل، تتوقف بأمر المخرج لنفهم أننا نتابع تنفيذ مشهد سينمائي، لنتعرف على بطل الحكاية بدر الديزل، دوبلير محمد رمضان، الذي يقوم بأداء المشاهد الصعبة بدلًا منه ثم يأتي البطل ليلعب المناطق التمثيلية السهلة دون أن يكترث حتى لنوع الوجبة التي تُصرف لشبيهه، بينما يسأل مساعديه الثلاثة بغرور عن أرقام مشاهدة أغنيته الجديدة على يوتيوب.
على مدار تاريخ السينما المصرية التي تمتلك ستة آلاف فيلم تقريبًا، لا أذكر سوى واقعة واحدة مماثلة قام فيها نجم بالسخرية من نفسه لحساب شخصية بديله بصورة تسيئ لشخصه (وليس السخرية من سمة يحبها الجمهور فيه كظهور أحمد السقا المتكرر مثلًا)، الواقعة كانت فيلم "ابن الحتة" للمخرج حسن الصيفي الذي قام فيه النجم فريد شوقي، ملك الترسو وقتها، بالأمر ذاته تقريبًا، بلعب دور الدوبلير ابن البلد الفقير الذي يؤدي المهام الصعبة بينما يأتي فريد شوقي المغرور السكير الذي يكرهه الجميع لينال النجومية، قبل أن يموت فريد شوقي في حادث ليكون على دوبليره عاشور العجلاتي أن يحل محله.
لا يموت محمد رمضان في "الديزل" بطبيعة الحال، لكن في الاختيار الذكي من مخرج الفيلم ومؤلفيه (محمد محرز وأمين جمال ومحمود حمدان)، والجريء من بطله، بداية شيقة تدخل الجمهور إلى عالم الشخصية والنجم في لحظة واحدة، وتؤسس لعلاقة مختلفة مع الفيلم الذي يدور في عالم فيلمي يشبه الواقع، لكنه ليس الواقع نفسه، حتى أن تجربة المشاهدة تختلف بعد تتابع البداية وتجبرك على أخذ ما تراه على نحو أكثر جدية.
في الأريحية التي يُقدم رمضان فيها على اختيار حكاية تحمل إساءة لشخصه أو على أقل تقدير سخرية منه، يمكننا أن نضع يدنا على أفضل وأسوأ ما في "الظاهرة الرمضانية". الأفضل هو الثقة المتبادلة بين النجم وجمهوره، لا سيما بعدما تجاوز رمضان مرحلة النجاح للأعلى فقط بعد أفلام تعثرت في شباك التذاكر، ليتخلص من مخاوف صورته في أعين الآخرين التي تُكبل خيارات العديد من النجوم. صارت هناك حالة من الأمان يمكن للنجم خلالها أن "يلعب" فيسخر من نفسه وهو واثق في أن جمهوره سيظل داعمًا له، والجمهور يشاهد هذا ويضحك ثم يعود لحب نجمه والدفاع عنه.
حالة يحلم بها أي فنان، لكن الجانب السلبي لها هو إنها تخلق فاصلًا بين من هم مع رمضان ومن هم ضده، وكأن محبوه قد صاروا حزبًا لا يكترث لما يقال خارجه عن نجمهم المفضل، الذي يتوجب عليه في المقابل أن يُقدم لهم حدًا مقبولًا مما يتوقعونه، لضمان وجودهم الذي يمنحه شرعية التفاخر وأريحية التجريب، أي باختصار الوضع يمنح الحرية بيد وينزعها بالأخرى، لكن الأهم هو أنه ـ في اللحظة الحالية ـ أسفر عن فيلم جيد.
مميزات وعيوب
قوة "الديزل" لا تكمن فقط في نقطة بدايته، ولكن تستمر في الطريقة التي تتطور بها الحكاية إلى منحى مفاجئ وغير متوقع، في التنفيذ الجيد لمشاهد الحركة خاصة فيما يتعلق بتصميم الديكور الملائم لمكان خيالي له طبيعة خاصة كساحة اللعبة المميتة التي يدخلها البطل، بحيث تم تصميم الديكور بما يلائم المشاهد التي سيتم تصويرها داخله، مع احتفاظه بقدر من الإبهار اللازم لتجربة مشاهدة فيلم الأكشن على شاشة كبيرة.
هذا لا يعني أن الفيلم لا يعاني من عيوب واضحة، أولها أن الانتقال إلى هذا المنحى المفاجئ باكتشاف طبيعة نشاط أشرار الحكاية يأتي بشكل مفاجئ ويتم التعامل معه باعتبار ما يمارسونه أمرًا عاديًا، وكأن الفيلم كان في حاجة لدقائق إضافية في منتصفه تعطي هذا التحول قيمته. كذلك بعض العثرات في الاختيار أبرزها الأداء بالغ التسطيح للممثلة الرئيسية ياسمين صبري، ديكور شقة الديزل غير الملائم لطبقته ومستواه الاجتماعي، والإفراط في استخدام اللقطات القريبة التي تشوه من ملامح الشخصيات بشكل مزعج (على النقيض من التوظيف الموفق للكادر المقلوب عند تعرض البطل للحظة عسيرة في حياته).
يحتاج الحديث لإيجابيات وسلبيات "الديزل" لمساحة أكبر، لكن ما يهمنا هنا هو قيمة الفيلم في مسيرة بطله المثير للجدل، والذي اختار بنفسه أن يُعامل كظاهرة بدلًا من المحاسبة على ما يقدمه من أعمال، فاكتفى بجمهوره وحرم نفسه من آخرين كانوا بالتأكيد ليستمتعوا بـ"الديزل" لو شاهدوه في سياق آخر.