في البلاد قليلة الانفتاح الثقافي والفِكري، كحال مِصر هذه اﻷيام، هُناك مشاكل بالجملة تُقابل محبي ومُريدي الفنون.
السينما والموسيقى والرسم والنحت والرقص، كلها مجالات مُقلِقة بالنسبة للشخص السويّ، تتطلب المُخاطرات والتضحيات عند دراستها والعمل فيها؛ لأن الدعم الذي تريدهُ، ببساطة لن تجدهُ.
ما العمل إذن؟ ما العمل بالنسبة لأولائك المهووسين المضطربين، الذين جُلَّ شغفهم الحياتي يكمُن بآلة موسيقية يلعبونها أو كاميرا يريدون مِن خلالها حكي حكايةً.. لوحات فنية يأملون ببيعِها، أو أفكارًا خارج الصندوق يتمنّون تحقيقها على أرض الواقع..
أنتستسلِم؟ لا لن نفعل هذا. أنستسلِم؟ لا أظن أننا قادرون حتى!.. ربما الحل هو إبقاء العَلَم مرفوعٌ لأعلى؛ التمرُّد والتحايل على الأعراف والمُسمّيات حتى آخر قطرة.
«من يريد تحقيق شيئًا سيُحققه»، سمِعناها آلالاف المرّات. لكن السبيل لا يأتي بمِثل هذه الكلمات التحفيزية المعسولة، العمل الدؤوب والنَكش بمُنكاش حتى الوصول هو الحل.
لن يُساعدِكَ أحد، عليك بعمل كل شيء بنفسك، أنتَ وأصدقائِك المهووسين مِثلك.. عليك بإيجادِهم إن لم تكن تملك، عليك بالبحث..
المشكلة لربما تكون فعلًا جوّه لا برّه. أعني أنَّك إذا أصبحتَ، حقًا، أفضل نُسخة مما يمكن أن تكون عليه، فهل يمكن على الظروف الخارجيّة أن تَمنَعُكَ من تحقيق مُرادَك الفنيّ، أيًا كان؟
لا توجَد أسهل من الكلمات. لذا، عليك مُشاهدة فيلمًا كـ(ميكروفون) حتى تقتنِع.. هذا شيئًا قد تحقَّق.
سمعت كثيرًا كلامًا حميدًا عن الفيلم قبل مُشاهدته. البعض يعتبره أفضل فيلم مستقل أُنتِجَ بمِصر في الألفية الجديدة، والبعض يعتبره ضمن أفضل عشرة..
فيلم (ميكروفون) للمخرج أحمد عبد الله هو فيلم رائع للغاية، ويُمكن التحدُّث عن العديد من الأشياء فيه؛ يمكن التحدث عن الطريقة المثيرة التي وثَّق بها أحمد عبد الله اﻹسكندريّة، ووَضع المدينة بؤرة موضوعًا هامًا يشغله كوجوب التمرُّد والتحايل على القانون باسم الفنّ. يمكن التحدث فيه عن (الموسيقى): الفيلم يتحدث جدًا عن الموسيقى، وبه مشاهد كثيرة فوتومونتاچية موسيقية كحال المشهد الافتتاحي الرائِع الذي أشبه أن يكون "ڤيديو كليب" مكتمل الأركان. يمكن التحدث عن مزجه لصنف التسجيلي مع الروائي، ووجود عددًا من المشاهد التي يمكن تصنيفِها كـ(دوكيودراما)؛ حيث أن العمل بأكمله كان في البداية مُخطط أن يُصوَّر كتسجيلي عن فرق الآندرجراوند الموسيقية بالأسكندرية. كما يمكن الحديث فيه عن عناصر الفيلم المختلفة والقوية، كالتصوير المتُقَن من "طارق حِفني" الذي استطاع ايجاد التوازن بين حوالي ثلاث أنماط تصويرية مختلفة، أو المونتاچ المميز مِن "هشام صقر"، خاصةً بالمشاهد الموسيقية، أو براعة الطاقم التمثيلي الذين أعطوا أداءات واقعية جيدة رغم كون معظمهم غير محترفين.
يمكن الكثير، لكن بالنسبة لكاتب هذه الكلمات ما أثارني وحرَّكني حقًا في العمل، هو كيفية صناعته.. فلسفتهُ اللاتقليدية، أفكار شخصياته التحرُّريّة. الأمر ذكَّرني بجُرعة المشاعر التي خرجتُ بها بعد مُشاهدتي للفيلم التسجيلي (هدية مِن الماضي) عن كيف أن "صناعة الأفلام" يمكن أن تكون عملية سهلة، إذا علِمتَ ماذا تفعل، وإذا نظرتَ لما تحت قدميك.
لذا دعونا نتحدث قليلًا عن هذا. . .
الفيلم يتحدث عن الموسيقى نعم، لكن الموسيقى هُنا هي الفن المتمثل عن بقية الفنون. ومُعاناة الموسيقيين تعني معاناة جميع الفنانين (السينمائيين والجرافيتيين كمِثال)، لذا فالموضوع لا يقتصر على فنًا بعينه، إنما الحياة والمُناخ الثقافي الفني بوجه عام في مِصر.
إذا كان هُناك شيئًا الفيلم يريد ايصاله لمُشاهدهُ، فهي أنَّ الوضع البائس هذا ليس قيدُ تغيُّر، ولا يمكن تمني شيئًا كهذا. إنما ما يمكن فعلهُ هو اختراع أشكال مختلفة من التمرُّد والتحايل على الأوضاع السائدة. تخيَّل مثلًا -وبما أنَّنا نتحدث عن سينما مستقلة- أن المخرج قد وَضَع مشهد يشرح فيه حيلةً للتصوير في الشارع دون لفت الانتباه!. أشياءٌ كهذه هي ما يجب على صناع الأفلام التفكير فيها، إن لم يكن هُناك وسيلةً أفضل ممكنة.
هُناك أكثر من حركة ذكية للغاية أُختيرت لكي تكون بديلًا عن "الممنوعات" التي ترفضها الرقابة، ومَن شاهد الفيلم بالتأكيد لاحظها. البعض مِنها جاء بأفكار مُبتكرة جدًا كاختيار عدم إظهار وجوه الموسيقيّات الفتيات مثلًا (تجنبًا لأي ظرف يمكن أن يحصُل).
أما الفكرة الأكبر، فهي أن صناعة الفن لا يمكن ربطها بمكانٌ معين. كثيرون مثلًا يُفكّرون في مدى بؤس الأوضاع -على كافة أصعدتِها- في مِصر ويقولون: كيف يمكن صناعة فيلم في بلدٍ كهذا؟!. جميل، لكن الفيلم لديه منظور آخر وهو أن صناعة الأفلام يمكن أن تحصُل في أي مكان. يمكنك ايجاد قصةً ما في كل زاويةً من كل شارع. ومن المفتَرَض أن الموضوع أو القصة هي ما تكون محور اهتمامك، لا توفير أفضل صورة ممكنة ولا تحقيق فنيّاتٌ مبهرة. هذا ما يقوله الفيلم ببساطة.. هناك شيء آخر أهم وهو الصبغة الذاتية والمحلية للفنان، إذا كُنت بورسعيديًا مثلًا ورغِبتَ بحكي قصة في محافطة السويس أو الإسماعيلية، هل ستكون بذات قوة تصويرها في مدينتك الأم؟.. إذا كانت الرؤية القصصية هي مقصِد حديثُنا، فبورسعيد هي الأفضل بالتأكيد لأنّك تعلم الكثير عن بورسعيد وعن طِباع أهلها.
الفكرة حقًا مُخيفة وتدعو للحسرة، فالقاهرة والجيزة تقريبًا بها كل مؤسسات ومعاهد تعليم المجالات الفنية، وهناك الكثير من محبي الفنون الراغبين بالدراسة الأكاديمية لها مِن محافظات مصر المختلفة، يتوجّهون للعاصمة خصيصًا لذلك. لأنه -وكما قيل في الفيلم- "كل حاجة هِناك".
لكن ومع ذلك، عملية التصوير ذاتها يمكن أن تكون أسهل بكثير خارج القاهرة (لظروف أمنية وللتكدُّس السكاني المهول وما شابه)، فهل تتخيّل على "ميكروفون" أن يُصوَّر في مدينة القاهرة مثلًا وأن يظلّ بذات الحيوية التي ظهر عليها؟.. لا أدري، لكني أرى أن المسألة كانت لتكون في غاية الصعوبة على طاقم صُناع الفيلم.
أُحب أن أُنهي حديثي بكلمات المخرج "أحمد عبد الله" ذاته، الذي حاوَرَتهُ "مجلة الفيلم" مُسبقًا في عددها السابع الصادر بأغسطس ۲۰۱٦، والمُعنوَن بـ(الثورة والشعوب في ذاكرة السينما). جاء هذا السؤال كخاتمة حوار شيق أجراه الناقد "إسلام أنور" معه.
س: بعد رحلتك الممتدة مع السينما لأكثر من ۱٥ عام ما بين المونتاچ والإخراج، ما أبرز الخِبرات التي اكتسبتَها وأصبَحَتْ تُشكِّل بالنسبة لك قواعد أساسية في عملك؟
ج: أولًا البُعد عن المؤسسات بما فيها شركات الإنتاج الكبرى، لأنها ستفرض عليك شروطها. ثانيًا صناعة أفلام شخصية، لأن الشخص في البداية قد لا يستطيع تحريك الكاميرا بصورة جيدة، ولا يستطيع توظيف الممثلين بصورة مميزة، لكن الشيء المؤكد أنه يتميّز فيه هو (حكي قصصه الشخصية). ثالثًا، النزول للتصوير وعدم الانتظار لأن تتوافر الميزانية التي يريدها. رابعًا، عمل أفلام ضمن جروب مُحب للسينما؛ لأن العمل مع أشخاص محبين للسينما في حدّ ذاته ثروة كبيرة وأهم من أن يكون معه إنتاج كبير لكنه يعمل مع أشخاص ليست مؤمنة بما تفعله. وخامسًا، عدم الخوف من أي سلطة؛ سواءً الجمهور أو النقاد أو النقابة أو السينمائيين.