أفتُتحت أمس، الثلاثاء، فعالية يوسف شاهين للأفلام المُرمَّمة بسينما "زاوية" الجديدة التي نَقَلت موقعها من سينما "أوديون" بشارع عبد الحميد سعيد المتفرع من طلعت حرب، إلى سينما "كريم" بشارع عماد الدين بوسط البلد. وكان فيلم افتتاح الفعالية هو الفيلم التاسع والثلاثون لشاهين، (المصير)، الذي حاز على اليوبيل الذهبي في نسخة "كـان" الخمسون (عام ۱۹۹٧).
وقد حضر الفيلم مئات من أطياف الجمهور المُحب للسينما وليوسف شاهين، وتجمهروا أمام السينما الجديدة قبل الساعة ونصف من بدء عرض الفيلم بالسابعة مساءً. العرض كان مذهلًا للغاية، وتذاكر العرض بيعَت كلها قبل قرابة الربع ساعة من بدء العرض.. وهو أمرٌ ربما لم يتوقعه الكثيرون، فيُمككنا بذلك التنبأ من اﻵن أن تذاكر أفلام كـ"الأرض" أو "إسكندرية ليه؟" سيكون عليها إقبالٌ غفير وغير مسبوق.
ومن أكثر الأشياء التي أراد الجمهور القادم لعرض الفيلم معرفتها، هو كيف سيبدو شكل الفيلم في نسخته الجديدة المُرمَّمة، وكيف سيخوضوا تجربةً فيليمةً نوستالجيةً كتلك. والحق يُقال: أنها تجربة فريدة للغاية من نوعِها، فقد عبّر أحد الجماهير في الندوة التي تلت عرض الفيلم مع المنتج والصديق المقرّب ليوسف شاهين "جابي خوري": إحنا دلوقتي شُفنا فيلم المصير ۲۰۱۸ مِش المصير ۹٧.. !
فيلم "المصير" يُعتبر من أهم أفلام شاهين وهو واحدًا من أكثر أفلامه جماهيريةً وعرضًا على القنوات المصرية. وإن كان هُناك من يرى أنه ليس من ضمن أهم خمسة أفلام له. لكن الإقبال الكبير الحاصل ليل أمس على العرض الافتتاحي يُعطينا فكرةً عن مدى تلهُّف الجمهور بعودة دوران عجلة سينما "زاوية" من جديد، وبعد طول غياب منذ نهاية أبريل الماضي. واختيار "المصيــر" لقص شريط الفعاليّة هو اختيارٌ ذكيٌ لسببين؛ أولهما أنه أكثر أفلامه بها تكنيك وحَرَكة وعَمَل من الناحية التصويرية (ربما مع الوداع يا بونابرت والناصر صلاح الدين)، بسبب طبيعتهما التاريخية ووجود عدد كبير من مشاهد القتال والأحداث الصاخبة، الحرائق والعجلات والتروس الحربية.. لذا، فهو بمثابة وليمة بصرية للمُشاهدة على الشاشة الكبيرة، ومُفتتَح جيد سيُضاعف من حماس وترقُّب الجمهور لمُشاهدة باقي أفلامه بهذه التقنيّة والحرص على عدم تفويت المهم مِنها..
وثاني هذه الأمور هي أنه ربما أكثر أفلامه (أقول فقط ربما) تعددية في الثيمات والمواضيع التي يُناقشها؛ فنحن نتحدّث عن معالجة تاريخية لشخصية "ابن رُشد" بالأندلس بالقرن الثاني عشر كخلفية للأحداث، كما نتحدث عن فيلم عن الحُب، وعن الموسيقى وجمال الحياة (علّي صوتَك بالغُنى... لسه الأغاني مُمكِنة.. آه..)، ووجود شخص كـ"محمد منير" كممثل ضمن طاقم العمل لم يأتي لبراعة تقمُّصه للشحصية بالطبع!، وإنما ليُسحِرنا ويُشجينا بصوته العذب. نتحدث عن فيلمٌ به أبعاد ﻷفكار تحرُّرية (اﻷفكار لها جناحات محدش يقدر يمنعها توصل للناس)، ونتحدث عن فيلم درامي ثقيل، ويحمل من الكوميديا ما يجعل قاعة العرض تضحك في وقتٍ واحدٍ من هيستيرية بعض المشاهد. والكوميديا هُنا تبدو كأنها إرهاصات ﻹفيهات الفيسبوك الحديثة!. مواضيع وثيمات كثيرة جدًا تجعل من تجربة مُشاهدة "المصير" ملائمة لحالات مزاجية وخلفيات حياتية كثيرة. ماذا أيضًا؟ موسيقى تضرب في الأعماق من "يحيى الموجي".. وإخراج ساحر مبهر للعين كما عادة أفلام شاهين.. إبهار تمثيلي -كما حال كل أفلامه بالطبع- من شخصياته، وتألُّق ملحوظ على الجميع، خاصةً الوجوه الجديدة (أمثال؛ هاني سلامة).
وبعد انتهاء الفيلم، أُقيمَت ندوة قصيرة تحدّث بها "خوري" عن رحلة صناعة الفيلم مع شاهين، ومدى وَلَع شاهين بأن يُحقق ما يرغبه فعلًا على الشريط السينمائي. كما تحدّث عن الظروف الإنتاجية للعمل، ومقتطفات قصصية عن فشله بحصد إيرادات مقنعة وقت عرضه جماهيريًا بمصر مع عرض الفيلم الذي كان منعطفًا في عمر السينما المصرية بإيراداته الخيالية وقتها.. تعلمون ما هو الفيلم، صحيح؟.. أقصِد "إسماعيلية رايح جاي".
هذه هي مُشاهدتي الثانية للمصير، ولا أعلم لماذا شعرت ليل أمس رغم حبي الشديد لهذا الفيلم، كأني شاهدته للمرة الأولى، شاهدته حقًا.. هُناك بعض المشاهد التي لا تُنسى من هذا الفيلم، لكني تفاجئت من مدى نسياني لأحداثه وكأني لم أُشاهده مسبقًا..
ومن اﻷمور التي زادت المتعة عليّ أني وجدُت نسخة "مجلة الفيلم" بعدده الخاص الصادر حديثًا في مقر سينما زاوية. وهي ما كنت أنوي أن أبحث عنها في مكتبات وسط البلد أو الذهاب لمقر "الچيزويت" ذاته إن لم أجدها.. العدد الخامس عشر من المجلة والمعنوَن بـ(يوسف شاهين، زيارة جديدة) يحوي عشرات المقالات والدراسات، المراجعات والحوارات واللقاءات الخاصة بكل شيء في سينما يوسف شاهين.
قبل مُشاهدة الفيلم قفزت جُملةٌ إلى إذني قالها أحد الجماهير داخل السينما، أن حدث ترميم أفلام شاهين هذا، هو تاريخيّ.. وبعد أن انتهيت من مُشاهدة الفيلم أحسستُ جدًا بهذا الاحساس: إنها تجربة تاريخية، عظيمة، وممتعة لأقصى حدّ فعلًا.. لكن الكلمات تبقى متواضعةً في وصفها.. لذا، فهي يجب أن تُجرَّب حتى يتم معرفة مدى روعتها.
بداية واعدة للفعالية وللسينما الجديدة بتاعتنا.. لنستغل هذه الفُرصَة إذن ولنطمع بالنجاح في هذا الوقت تحديدًا ولنسأل السؤال بلا خوف من قولِها بنغمة من المُبالغة في السعادة: ما الذي يُمكن على الأمور أن تتطوّر إليه؟