يعتبر مهرجان تورنتو أحد البوابات الرئيسية للأوسكار، فمعظم الأفلام التي تتنافس في موسم الجوائز الأمريكي تبدأ رحلتها من أونتاريو الكندية، باعتباره المهرجان صاحب السوق والتغطية الصحفية الأكبر في أمريكا الشمالية، بالإضافة لموعده في سبتمبر والذي يجعل الصدى الذي يحققه الفيلم فيه بداية مثالية لدعاية الأوسكار. ويكفي أن الفيلم الفائز بجائزة اختيار الجهور في تورنتو خلال آخر ست سنوات ضم قائمة فيها كل من "Silver Linings Playbook"، "12 Years a Slave"، "The Imitation Game"، "Room"، "La La Land" و"Three Billboards Outside Ebbing, Missouri"، وجميعها بلا استثناء فازت بجوائز أوسكار في فبراير التالي للمهرجان.
لكن ما هي الأفلام التي يمكن قبل المهرجان أن نترقبها وننتظر وجودها بقوة في موسم الجوائز؟ بالتأكيد هي أفلام كبار المخرجين الذين نتوقع منهم الكثير، عندما تترقب فيلم ستيف ماكوين أو داميان شازيل أو ألفونسو كوارون الجديد هذا أمر منطقي، لكن أن تأتي المفاجأة السارة من مخرج تضم قائمة أفلامه عناوين مثل "Dumb and Dumber" الذي نعرفه في مصر بعنوان "غباء × غباء"، ولم يفز طوال 24 سنة من الإخراج سوى بخمس جوائز مغمورة منها جائزة "راتزي" لأسوأ مخرج في العام، فهذه مفاجأة تستحق أن نتوقف عندها باهتمام.
حكاية مثيرة ولكن
المخرج هو بيتر فارلي الذي اعتاد تقديم أفلام كوميدية خفيفة من نوعية "There's Something About Mar" و"Me, Myself & Irene". أما الفيلم فهو "كتاب أخضر Green Book" الذي تجمع بطولته النجمين فيجو مورتنسن وماهرشالا علي، عن القصة الحقيقية لسائق ذي أصول إيطالية لديه ميول عنصرية تضطره الظروف في مطلع الستينيات للعمل كسائق وحارس خاص لعازف بيانو عالمي أسود.
نقطة انطلاق مثيرة بالفعل، خاصة وأنه على العكس مما يمكن توقعه، لا يستند السيناريو لعمل أدبي أو أصل سابق تناول القصة، بل كتبه مباشرة للشاشة نيك فاليلونيا، ابن بطل الحكاية ذي الأصل الإيطالي، والذي كتب السيناريو بمشاركة المخرج بيتر فارلي والممثل بريان كوري الذي يظهر في الفيلم في دور صغير.
الحكاية جذابة بالفعل، لكنها تحمل داخلها كل أسباب الحذر طبقًا للخبرات السابقة في السنوات الأخيرة. فيلم عن العنصرية في الستينيات فيه لقاء بين أبيض عنصري وأسود متحقق، تبدو أرضية خصبة لصنع فيلم قضية آخر مليئ بالمواقف التي لا يجرؤ أحد على وصفها بالافتعال فقط لأنها تطرح قضية فوق مستوى النقد، لا سيما عندما نعرف أن العازف دون شيرلي كان أيضًا مثليًا. لكن لحسن الحظ ـ وربما لخلفية صناع "كتاب أخضر" الخفيفة - جاءت النتيجة أكثر من مرضية، على مستوى تناول الموضوع وتنفيذ الفيلم.
لقاء الكليشيه بالاستثناء
يبدأ الفيلم بتقديم شخصية طوني، الحارس الأبيض في أحد الملاهي الليلة في نيويورك، والذي قد يمتلك بعض الحيل التي اكتسبها من سنوات العمل، لكنه في المقابل عنيف، مندفع، منخفض الذكاء، يمتلك كل السمات ويؤمن بكل الأفكار الساذجة والصور النمطية التي يمكن أن يمتلكها أمريكي إيطالي في ستينيات القرن العشرين: الذكورة المفرطة، النهم المبالغ فيه، العاطفية الشديدة، والأحكام السطحية على البشر وفقًا لأعراقهم، بما يتضمن احتقار للملونين سيعرف لاحقًا إنه لم يفكر لحظة في أسبابه أو يقرر فعلًا أن يمارسه، فقط فعلها مثل الآخرين، نسخة أخرى ممن حوله، كليشيه.
قناعات طوني الراسخة تهتز عندما يقابل دون شيرلي أو "الدكتور" كما ينادونه بسبب حصوله على الدكتوراه في الموسيقى من الإتحاد السوفيتي. شيرلي فنان عالمي متحقق، يتحدث عدة لغات بطلاقة، يتكلم الإنجليزية الكلاسيكية بطريقة اللوردات، متأنق طيلة الوقت ويتعامل مع العالم بحذر، ولا يفعل أي شيء كان طوني يتوقعه منه وفقًا لتصوره عن الملونين، يكفي إنه لا يسمع موسيقى الجاز ولم يأكل في حياته ولو قطعة من دجاج كنتاكي. شيرلي استثناء لا بد من وجوده لتحريك المياه الراكدة، لكن من قال أن حياة الاستثنائيين تسير بسلاسة ودون مشكلات؟ "مهما حدث ومهما تعرضتما له، عليك أن تجعله يصعد إلى المسرح في موعده" يقولها منظم الجولة الموسيقية التي يقوم بها الدكتور في الجنوب الأمريكي، ويقبلها طوني بعقله البسيط وثقته المتناهية في نفسه، دون أن يتصور معنى خوض رحلة في جنوب الستينيات مع رجل زنجي، في الوقت الذي كان من الطبيعي فيه أن يلعب شيرلي على المسرح فيسمعه الحضور البيض ويستمتعون به، ثم يمنعونه من الذهاب لنفس المرحاض معهم والذي يُمنع على الملونين استخدامه!
لهذا نحب هوليوود
الموقف السابق هو أبسط المواقف التي يتعرض لها بطلا "كتاب أخضر"، وهذا الكتاب بالمناسبة كتاب منحه منظم الجولة لطوني يضم الفنادق والمطاعم الجنوبية التي تستقبل زبائن ملونين، والذي يتحول إلى إحدى الموتيفات الكثيرة التي يجيد الفيلم استخدامها: قطع اكسسوار يتم توظيفها داخل الحكاية ومنحها معنى وقيمة تساهم في دفع الصراع لأعلى والأحداث للأمام. أداء يستحق ترشيح الأوسكار من بطلي الفيلم، حوار مكتوب بخفة ظل واضحة يضم عدة عبارات تعلق في الذهن، وسيناريو مكتوب على الطريقة الهوليوودية الكلاسيكية، يزرع كل شيء بهدوء ليعود فيحصده بعد الوصول لنهاية يمكن توقعها، فما الذي يمكن أن ينتهي عليه فيلم كهذا إلا أن يصير الرجلان أصدقاء ويتغلبا على متاعب الرحلة معًا؟ لكن السؤال هنا لا يكون "ما هي النهاية؟" ولكن "كيف سنصل لهذه النهاية؟". وطريق الوصول هنا درس في صناعة الفيلم الهوليوودي الكلاسيكي: القصة محكمة البناء، الأبطال الفاعلين، الاختيار المتميز للممثلين، وضبط إيقاع الأحداث بما يلائم النوع. هذه هي الأسباب التي صنعت شعبية هوليوود بل وشعبية السينما في كل مكان بالعالم، وكون الصياغة الهوليوودية باتت وصفًا سيئ السمعة بسبب ابتذاله في مئات الأفلام الساذجة، فإن صناع السينما الأمريكية يفاجئوننا كل فترة بفيلم كهذا يعيد الاعتبار للسينما الكلاسيكية، ويجعلنا نعرف لماذا وقعنا في حب هوليوود قديمًا. "كتاب أخضر" ليس مجرد فيلم عن العنصرية، وإنما هو حكاية عن الصداقة بالأساس، الصداقة بين رجلين لم ينل أي منهما الفرصة في حياته للاستماع للآخر، فلما أجبرتهما الظروف عليها، اكتشف كل منهما في قرينه السمات ذاتها: الشهامة والنبل وخفة الظل والشجاعة حتى في أحلك الظروف. وعندما يتم هذا الفهم يغدو الحديث عن كل ما يفرق البشر مجرد عبث، لا يستحق أكثر من سخرية طوني وسبابه اللاذع.