قبل بدء فعالية "زاوية" الجديدة كانت مُشاهداتي لأفلام يوسف شاهين هي تسعة أفلام، لم يكن من ضمنها "حدوتة مصرية".. وعندما أخبرت أحد أصدقائي المُقرَّبين الذي جَلَس بجانبي في قاعة العرض أني لم أُشاهد الفيلم بعد، ردّ وقال لي: "يا بختك.. هتشوفه أول مرة نُسخة مُرمَّمة على الشاشة الكبيرة".
في اليوم الثاني من فعالية "النُسخ المُرمَّمة" ليوسف شاهين بسينما زاوية بطلّتها الجديدة، عُرض الفيلم الذي -وكحال جميع عروض السابعة مساءً حتى الآن- اكتمل عدده تمامًا بالقاعة الكبيرة.. و"حدوتة مصرية" هو واحدٌ من أكثر الأفلام السيكولوچية معقدة السرد التي رأيتها، ربما في حياتي.
الفيلم يحكي قصة جراحة قلب مفتوحة تتعرض لها شخصية "يحيى شكرى مراد" التي يقوم بتجسيدها "نور الشريف" وهو مخرج سينمائي يحكي فيها شاهين عن ذاته بشكل مُباشر حينًا وغير مُباشر حينًا أخرى. وعبر هذه الجِراحة ندلُف إلى عالمٍ سيرياليٍ حيث المنطق كله يحدث من خلال اللاوعي 'الـ Subconscious' لهذا الرجل العاشق والمُغرم بالسينما، لنُشاهد خليط ما بين تفسير "يحيى" لعدة أشياء من ماضيه ومحاولة السؤال والشك لتلك الأحداث في تجربة أقرب بأن تكون "إيمانية الطابع"، وبين مقتطفات مشتتة لهذه الأحداث ذاتها، بما فيها أعماله السابقة والظروف السياسية التي نشأ وتربى في مُحيطها، والتي أثرت به آتيةً على شكل مقاطع أرشيفية تسجيلية بالأبيض والإسود.. الفيلم -كما يعلم الجميع- هو الجزء الثاني من رباعيّته الذاتية.
هناك قراءات كثيرة بالطبع لهذا الفيلم، لكن بالنسبة لكاتب هذه الكلمات رأيت الفيلم كـفيلمٌ يتحدث عن شخص مولَع بعالَم السينما ومهووسٌ تمامًا به.. و"الشغف والحركة" هما ما يحكُمانهُ، وهذا مجرد منطلق بسيط يمكن قراءة به شخصية شاهين التي يتطلب قراءتها جيدًا الحديث عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، ووضع قصة حياته الشخصية بما فيها من تمرُّده على التقاليد والمُسمّيات المُتَّبَعة من مُعاصريه من السينمائيين، يجب وضع كل هذا في سياق الحديث عن هذا الفيلم أيضًا لأني أشعر أن من الخطأ الحديث عنه دون الحديث -مثلًا- عن مكانة الفيلم ضمن رباعيته، أو عن "إسكندرية ليه؟"، لأن الأمور كلها مرتبطة ببعض هُنا ولا يمكن فصل شيء عن سياقه لأنه سيُحوّله لشيءٍ ذو معنىً آخر. لذا، فدعونا نقصِد أبسط القراءات الصادرة من شاب انبهر للتو بالفيلم، وشاهدهُ للمرة الأولى، ورآه من منطلق هَوَسهُ -هو الآخر- بعالم السينما والأفلام.. لكن قبل ذلك أريد ذِكر واقعة بسيطة.
. . . . . .
في العدد الأخير من مجلة الفيلم (الخامس عَشَر) المُقدَّم كتحيةً وإهداء لسينما شاهين الذي فارق حياتُنا قبل عشر سنينٍ من الآن، هُناك مقالة بعنوان حدوتة القلب المفتوح على طاولة المخرج والأديب وهي أولى مقالات العدد، كتبتها الناقدة الشابة "آيه طنطاوي".. تبدأ المقالة بهذه الكلمات:
«حرارة الصيف تشتد والصحف والمجلات تفاجئنا بخبرٍ مؤلمٍ ومُربكٍ في آنٍ؛ يوسف شاهين يرقد في غرفة العناية المركزة بمستشفى القوات المسلحة بالمعادي، المؤلم هو الخطر الصحي الذي يتعرض له شاهين فازداد قلق مُحبيه عليه من أهله وأصدقائه وتلاميذه وجمهوره، والمُربك أنّ هذا الخبر يستدعي في الذاكرة "نـور الشـريف" في فيلم "حـدوتة مـصرية" وهو في غرفة العمليات بين يدي طبيب يجري له جراحةً دقيقةً في قلبه في مشهدٍ هو إعادة تمثيل لما عاشه شاهين بالفعل قبل سنواتٍ في يونيو ۱۹٧٦ في لندن كلينك وقلبه يستميت ليحيا، وكان بالفعل اسمه بالفيلم "يحيى" كعادة شخصية شاهين في أفلامه، وما حدث أنه عاشَ بالفعل بعدها في الفيلم وفي الحياة...
...يترقب الجميع مصير شاهين، توزّع الجرائد صباح كل يوم فيُقبِل عليها جمهوره ليطمئنوا على حالته، والتوتر بدأ يزيد. انتشرت الشائعات.. "لا أمل".. "شاهين يموت"، فخرج مدير المستشفى د.أحمد عبد الحليم في مؤتمر صحفي ليؤكد أنها مجرد غيبوبةٍ عميقةٍ وليست موتًا إكلينيكيًا كما يُشاع.. مشهدٌ جديدٌ يذكرنا بأول مشاهد المُحاكمة في فيلم "حدوتة مصرية" حيث يتوافد الجميع ويقف الصحافيّون ووكالات الأنباء لتغطية أخبار "يحيى" بطل الفيلم الذي بدأ لتوّه العمليّة/المُحاكَمَة، كأن الواقع يُعيد تمثيل الفيلم مشهدًا مشهدًا»
ما أريد قوله هُنا هو أني قرأت الكلمات السابقة قبل قُرابة الأسبوع من مُشاهدتي لعرض "حدوتة مصرية"، فكان الأمر كالحالة الخاصة بالنسبة لي لأنها المرّة الأولى التي أعلم الواقعة الـ"دراماتيكية" هذه عن قصة وفاته، فلم أكن أعلم عن ماذا يتحدث حدوتة مصرية.. لذا، فتقريبًا هكذا، حصُلَ معي عكس ما حصل للغالبية العظمى؛ شاهدت الـ"مشهد الفيلمي" بعيون احتفالية ذكراه وكلمات هذه المقالة التي تسرد خبر وفاته، لا العكس. قرأت عن الفيلم قبل مُشاهدته، وهذا شيءٌ تعلمت ذات يوم أنه ليس بالأمر الجيد على الإطلاق بعدما استمتعت مرةً من المرات بمقالة نقدية قرأتها عن فيلمٌ ما، أكثر بمراحل من مُشاهدة الفيلم ذاته.. لكن هذه المرّة غير، وأنا لستُ مُستاءً على الإطلاق، بالعكس...
- تعالوا نشوف واحدة حلوة نعلّقها..
= ما بلاش يا جماعة، أصل أنا عايز أشوف الفيلم تاني.. أصلـي مشفتوش كويس
- ما تبطَّل بقى تعيش في حلم الأفلام، خليني أعلمك ازاي تعيش بشحمك ولحمك.. وهِنا، مش في هوليوود بتاعتك دي
___ لقطةً مِن "إسكندرية ليه؟"
"شاهين" أو "يحيى" في (حدوتة مصرية)، هو شخص مولَع بالسينما، لدرجة يمكن معها تخيُّل أن حياته التي يعيشها (في الفيلم) هي قصة فيلمية.. تخيّل عندما تكون حياتك عبارة عن قصة فيلمية، تحدث بها الأحداث بوقعٌ دراميّ.. فحين تحب فتاةً، تحبها كما يحدث في الأفلام.. وحين تجد نفسك في وقت فراغ، تهُمُّ بالذهاب إلى دار العرض لتُشاهِد الفيلم مرةً واثنان، كما حدث مع "يحيى/محسن محي الدين" بـ"إسكندرية ليه؟" عندما خرج مع أصدقائه من دار السينما ليذهبوا ويُعاكِسوا بعض الفتيات في الدقائق الأولى من الفيلم، ليرفض يحيى راغبًا بذلك بمُشاهدة الفيلم مرةً ثانية رغم أنه خرج منه للتو، فيردّ عليه أحد أصدقائه أنه يجب عليه العيش في الواقع والبُعد عن هذه العوالم الخيالية بالأفلام بتاعته دي.. ليس مِن المُستغرَب إذن أن هذا الشاب المهووس بالدراما تجده حين كَبِرَ مخرج موهوب تذهب أفلامه لأشهر مهرجانات العالم، فـ"الشغف" هُنا هو ما كان في الموضوع ليس "انطوائيته" مثلًا.
الفيلم يحكي عن أمورٌ جديّة في حياة شاهين، ليأخُذنا إلى رحلةٍ وجوديةٍ مليئة بالشكوك والتساؤلات عن علاقته بأفراد عائلته، وكيف وصل الحال به لهذه الدرجة من التصالح مع النفس حين يخبره الجميع بعيوبه ونقائصه، وهو يُصمم على أن الحياة ماشية، حتى في اللحظات المصيرية التي يُمكن أن تكون هي الآخيرة بحياته، هو ما زال يُهرّج ويُلقي بالنُكات.
لكن الفيلم أيضًا يحكي -في الصورة الكبيرة ربما- حكايةً عن إنسان شغوف بالأفلام، يحب مُشاهدة الأفلام، ويحب صناعة الأفلام.
فعندما تنكشه "آمال" (يسرا) قائلةً له: "تتجوزني؟" يردّ عليها بكل جديّة "يخربيتِك!، سرقتي الجملة من بُقي، كومبارس أنا بقى متسيبيليش حوار أقوله" كأنه فعلًا، يتخيّل أن هذا مشهدٌ فيلمي يقوم بتمثيله، لا موقفٌ حياتي يتطلب قليل من الواقعية والبُعد عن النبرة الميلودرامية تلك.
الفيلم أيضًا حالة خاصة، لأنه "فيلم يتحدث عن الأفلام (السابقة لشاهين)" بقدر ما هو فيلم يحكي قصته الخاصة، وهذه اقرب بأن تكون تيمة حدثت مراتٍ طوال في السينما، أذكر منها مثلًا (Ed Wood) لـ"تيم بيرتون"، أو (8 ½) لـ"فيدريكو فيليني".. لذا، فقد رأيت أني لو كان بيديّ الاختيار، لكُنت شاهدته بعد "العصفور"، وبعد العديد من الأفلام التي ذُكِرَت بالفيلم حتى أفهم الصورة بشكلٍ أفضل.
الفيلم سيكولوچي بالأساس، وهمّه الرئيسي حكي قصة شخصية عن رجل تائه وسط أفكار ماضيه وحاضره، ووجود عنصر "الأفلام" في حياته يُزيد الطين بلّة لأن الأفلام كالأحلام التي تُزيد من تيه الشخص الذي يرغب بالعودة للواقع والفوقان من عملية جراحة القلب، لكن الأفلام لا تتركه على حاله وحيدًا، سواءً بأحلامه (عالم الفيلم مِن بعد الدقيقة الخامسة والعشرون حتى نهايته) أو في الواقع، واقعه...
. . . . . .
بعد انتهاء الفيلم، جرت في قاعة السينما ندوة نقاشية مُشوّقة الاستماع للغاية، فكان كل شخص من المُشاهدين الذين بَقوا يريد إبداء وجهة نظره الخاصة في المُناقشة عن شيئًا محددًا أعجبه في تجربة الفيلم، وقد استمرت المناقشة للساعة الكاملة إلا بضعُ دقائق، وكان ضمن ضيوف الندوة المخرج الشاب "ماجد نادر" (صاحب الفيلم القصير 'فتحي لا يعيش هُنا بعد الآن').. هكذا انتهى الفيلم، وهكذا انتهت التجربة، لكني على يقين أنّ الكتابة عن تجربةٍ كتلك بهذا الشكل المتواضع هو أمرٌ منقوص كان ليلزمه مُشاهدتين أو ثلاث قبل كتابة شيءٍ عنه، فهذا فيلم دسم ومُعقّد للغاية، يحتاج أكثر من مُشاهدة واحدة ليس فقط للإلمام بجوانبه الكاملة التي قد يتغافل المُشاهِد عنها بحُكم الجرعة السيكولوچية الثقيلة فيه كما أشعر أنه حَصُلَ معي، لكنه أيضًا فيلم يستحق الدراسة والتحليل وتفكيك مشاهدهُ والقراءة عنه مراتٍ عدة، ومعها مُشاهدته مراتٍ أكثر.