فعاليّة شاهين: إسكندريّة ليه؟.. بورتريه جمالي للمدينة الساحليّة

«ربنا أعطاك موهبة، حاسب عليها... عشان دي مش مِلكَك، دي ملك الكل»

ضمن فعاليات اليوم الثالث من "شاهين: النسخ المُرمَّمة" التي تستضيفُنا "زاوية" بها إلى عوالم يوسف شاهين وأفلامه الكلاسيكية، عُرضَ الفيلم المنتظر بشدة مُشاهدته من الجميع على الشاشة الكبيرة (إسكندرية ليه؟)....

هذا الفيلم هو الأفضل بالنسبة لي من أفلام شاهين من حيث أجوائه، الأجواء الدرامية هُنا ومقدار التوّرط الحاصل بين المُشاهد والأحداث أمامه على الشاشة هي في قمة مكانتها؛ سواءً في مُتابعة شخصية "يحيى" محور الحدث الرئيسي الذي "يتجرَّأ" بالحلم بالسفر إلى أمريكا ليدرُس الفنون (الموسيقى والتمثيل)، أو في متابعة البُعد السياسي والأحداث السياسية الحادثة في الخلفية على الهامش، حيث مكان الحدث هو الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينات القرن الماضي، أو في متابعة القصص القصيرة المتفرقة الحادثة في محيط الإسكندرية (كالحب الذي يجمع الفتاة اليهودية "سارة" (نجلاء فتحي) والشاب الثائر "إبراهيم" (أحمد زكي)، أو علاقة الصداقة بين الشباب الأربعة من الخلفيات الاجتماعية والدينية المختلفة)، وهذه الخطوط القصصية تتجمع كلها في ما يُشبه البوتقة الواحدة ظاهرةً كبورتريه جمالي وتوثيقي لمدينة الإسكندرية المعاصرة، رغم أن الأحداث قديمة الزمان.

الافتتاحيّة الرائعة

يبدأ "إسكندرية ليه؟" بافتتاحية من أروع وأجمل افتتاحيات أفلام شاهين، تبدأ الكلمات الأولى على لسان شخصية "عزت العلايلي"، الرجل الإسكندراني ابن البلد، الذي يخبرنا عن مدى الهيبة الموجودة في مدينته، وأن "هتلر" نفسه لم يستطع احتلالها بسبب صلابة أهلها، يقول "وبالظبط كده سنة ٤۲، روميـل الألماني، وجيشه، كانوا داخلين على إسكندرية، ناويين يدغدغوا الجيش الإنجليزي، والمُرسي أبو العباس ما حدّ كان عارف يوقفهم"، ومن ثمَّ وبعد دقيقة، تبدأ الموسيقى الساحرة التي تخترق الوجدان والتي أصبحت شبه محفوظة -من شدة روعتها- في العقل الجمعي للإسكندرانيين عند الحديث عن البحر، تبدأ مقطوعة الرائع "فؤاد الظاهري" الذي تولي وضع الألحان والموسيقى التصويرية في هذا الفيلم، لنُشاهد عدة مقاطع تسجيلية مع ظهور التترات لشواطئ الإسكندرية، ومقاطع أرشيفية للجيش الألماني، و"هتلر"، وغضب المدنيين في شوارع أوروبا.

الفيلم الواحد، القصص المتداخلة..

الفيلم يحكي عن عدة قصص متنوعة حاصلةً في مدينة الأسكندرية، وبتركيز أكثر على قصة "يحيى"، رغم أن القصص الأربع أو الثلاث الأخرى هي قصص دسمة تستحق فرد حبكات كاملةً لها، لكن الفيلم همُّه الفعلي هو إحداث تلاقي بين هذه القصص التي لا يربطها شيء سوى اشتراك مكانٌ تاريخي كهذا في واحدةً من أصعب فتراته السياسية والاقتصادية.

لِما أجواء "اسكندرية ليه" قوية؟

ربما بسبب قوة وحركة الأحداث ذاتها داخل الفيلم المليئة بعنفوان الشباب والضرب والعنف على يد شخصيات الرجال الذين يريدون التخلص من الاحتلال الإنجليزي.. الأجواء المشحونة هُنا، وسرعة إيقاع الحكاية هي الشيء الواحد ربما الذي أتذكره عندما أفكر بالفيلم.

التجرُّؤ على الحلم، وعدم الخوف من استحالته..

هي عماد كل شيء هُنا وما أراد شاهين أن يحكيه حقًا، يوسف شاهين ذاته كان لا يطيق نظام التعليم ولا المواد التي درسها في كلية "ڤيكتوريا" بالإسكندرية، لدرجة أنه صنع فيلمًا قصيرًا في عمر الثامنة عشر، يسخر وينتقد فيه النظام التعليمي، رغم أنه كليّته كانت واحدة من أكثر الكليات المرموقة حينها.

شخصية "يحيى" هُنا هي نموذج كلاسيكي للعديد من الأفلام التي حَكَت بعد ذلك شخصية الـشاب المهووس بحلمٌ ما ولا يشعر أن هناك أحد يفهم ما في عقله.. كما في شخصية "آندرو نيمان" بـ(Whiplash)، أو كما شخصية "كريستوفر مكـندِلز" بـ(Into the Wild)، أو غيرهم.

"يحيى" هو شاب في الثامنة عشر من عمره، تربى وسط عائلةً من أبٍ يستمع للموسيقى ويُشاهد الأفلام بشكلٍ يوميّ، لكنه لا يقبل على ابنه أن يتخذ من التمثيل دراسةً أكاديميةً له. يعيش وسط أصدقاء يُرددون له عبارات كـ"سيبَك من هوليوود بتاعتك دي" و"احلم على قدَّك" طوال الوقت.. وهو يُصر ويزداد عِندًا وتزمُّتًا بضرورة فعل ما يُحب في الحياة، هذا لأنه فعلًا يحب شيءٍ ما ولديه شغفٌ رهيبٌ تجاه هذا الشيء.

لذا، فهو لا يخاف من استحالة الحلم أو بُعده عنه (رغم أنه فرنساويّته مكسرة، وانجليزيّته ليست بهذه القوة أيضًا)، بالعكس، هو طموحٌ لأقصى الدرجات.. لديه جرأة مثيرة للاهتمام تجعل ممن حوله يقولون "كيف لهذا الشاب القادِم من عائلة فقيرة أن يحلم بالذهاب لأميركا مرّة واحدة؟!".. هذا لأنه يؤمن بذاته وبموهبته، ويؤمن أنّه يجب عليه استغلالها بأفضل حال كما تُذكّرهُ حماته عندما يذهب إليها يائسًا "ربنا أعطاك موهبة، حاسب عليها... عشان دي مش مِلكَك، دي ملك الكل". وهذا شيء دائم الحصول لأي فنان، فهو يشعر بالهِبة التي منّها الله به، وميَّزه عن باقي البشر بها، لدرجة أنه يشعر كما لو كان مُصيّر لا يملُك أن يُسيء استخدامها، فهو المحظوظ الذي عليه أن يُنقذ البشرية!

لا مجال هُنا للرمزيات، الموضوع مُباشر للغاية، هذا تقريبًا ما يردده شاهين في ذاته طوال الوقت.. حلم العالمية، حلم الخروج من القوقعة، حلم مخاطبة الجميع، الأمر لا علاقة له بحب شاهين للغرب أو انحيازه لهم كما يقول منتقدوه، هذا ما في يرغب به أي (فنان) حقيقي؛ الوصول لأفضل ما يُمكِن الوصول إليه، وهذا في رأي شاهين بحالة "يحيى" كان الدراسة بأمريكا.

اللازمة.. لازم تيجي!

لكن وللأسف، وكحال عدد ليس بالقليل من أفلام شاهين ("المصير" منها)، الأمور "تنتهي" بسرعة شديدة في الخاتمة بلا مُمهدات كافية أو تسلسلات منطقية. ففجأة يأتي الـ"جواب" الذي طال انتظاره من تحت الأرض، ليُعلن عن تحقيق النهاية السعيدة التي عكف عليها البطل طيلة الأحداث، وليذهب إلى المكان الذي أراده.

يأبى شاهين من إنهاء فيلمه إلا قبل أن يظهر فيه، فيظهر في لقطةً خاطفةً و"صايعة" منه، مُفادها أنه هو الـمُخلص من هذه المنعطفات الدرامية التي يريد "يحيى" فيها إيجاد المبلغ المالي اللازم للسفر، لتكون هي مشكلته وهمُّه ومتاعبه كلها في الفترات الأخيرة من الفيلم، لكن السَفَر ذاته لا يوجد ما هو أسهل منه بالتأكيد!

. . . . .

يُذكر أن قاعة سينما "زاوية" وبدايةً من عرض هذا الفيلم، قد فتحت القاعة الصغيرة لتعرض فيها نسخة أخرى مُرمَّمة مُناصفةً مع توقيت عرض القاعة الكبيرة، وهذا بسبب الإقبال الغفير من الجمهور على تذاكر العرض. وقد حضر عرض الفيلم "محسن محي الدين" بشخصه، وأُقيمَت ندوة قصيرة بعد انتهاء الفيلم حكى فيها محي الدين عن تجربة تمثيله هُنا ومع باقي أفلام شاهين، وأجواء صناعة هذا العمل وفوزه بالدب الفضي في "برلين"، وغيره...