في نهاية اليوم الثالث ضمن فعاليّات "زاوية، النسخ المُرمَّمة لأفلام يوسف شاهين"، عرض فيلم (فجر يوم جديد)، وهو الذي أخرجه شاهين عام ۱۹٦٤ بعد عام واحد من تقديم ملحمته الأشهر (الناصر صلاح الدين).
الفيلم يتحدَّث في فكرته الأساسية عن ردود الأفعال الـ"مجتمعية" الناتجة عن علاقة غرامية تجمع سيّدة في مطلع الأربعينات، بشاب في بداية العشرينات، والموضوع هُنا أقرب إلى الـ"تابوه". فـ"نايلة" هانِم ("سناء جميل" في دور قدمت فيه أداءً رائعًا)، تجد الشاب "طارق" (سيف عبدالرحمن) الذي يبلغ الثانية والعشرون من عمره، قد وَقَع في غرامِها لأسباب لا داعي لذكرها هُنا، لكن يُمكننا القول أنه أحمق ويختبر الحب للمرّة الأولى في حياته مثلًا!، وتجد نفسها هي الأخرى قد انجرفت له رويدًا رويدًا، لكن القصة لا تقف عند هذه النقطة ولا تُطوّر هذه الجزئية كثيرًا، بل لا تستمر بالتوغل فيها من الأساس، بل تختار -القصة- أن تستعرض طبيعة أو بالأحرى "معنى" هذا الحب بينهما من خلال تسليط الضوء على ردود فعل المجتمع والناس المحيطة بهم، لنجد أنّنا أمام فيلمٌ رومانسي الصنف، اجتماعي الموضوع يقوم بطرح أسئلةً على شاكلة: كيف سيتقبل الناس الموضوع؟، وكيف سيكون لذلك أثر على علاقتهُما؟.. وكيف سيتعامل الثنائي مع الأمر أصلًا؟، وما مدى استماعهُما للأفراد من حولهُما في ظل الأشياء التي يؤمنون بها عن مفهوم الـ"حب" الغير مشروط بسن مُعيّن؟.. للإجابة على هذه الأسئلة من الضروري عدم فصل السياق الثقافي - الاجتماعي لمِصر الستينات أيضًا.
كما تحاول القصة عَمَل تماس بين قصة "نايلة" وبين قصةً (خيالية الطابع/ سيكولوچية التأثير)، لطفل صغير فقدته عائلته أو ما شابه، ودائمًا ما تسترجع "نايلة" ذكراها عن تعاملاتها القاسية مع هذا الصغير، لتكون هذه الموتيفة بمثابة جسرٌ سيكولوچي سيُعمّق من الصورة التي نأخذها عن هذه الشخصية؛ فيبدأ الفيلم لقطته الأولى على هذا الطفل الذي لم يتعدى العاشرة، كما يختار شـاهـيـن إنهاء فيلمه عليه أيضًا.. لكن ما بين مشهد الفيلم الافتتاحي هذا، والختامي، يحصُل الكثير. فتتضح معالم العمل بمرور زمنهُ ولا يبدو من الخطأ وصفه بـ(فيلم دراسة شخصية)، هي الشخصية التي تقدمها "سناء جميل".
لا أعلم أهو عيبٌ مني أم أني لم أنتبه كفايةً أم ماذا، لكن هذا البُعد السيكولوچي لقصة الطفل الصغير لم أتواصل معه ولم أفهمه، رغم فهمي لمعناه الذي يمثل هاجس أو كشبح يُطارد السيدة ويُخبرها بماضيها..
. . . . . . . .
- نايلة، نايلة (يصرخ بصوت عالٍ).. نايلة، ايه؟
= علشان مكانش مُمكِن..
- انتي عارفة إنّ دي آخر فرصة لينا
= الحياة لسه قدامك طويلة، أنا عرفت معاك أيام سعادة مكنتِش أحلم بيها.. دلوقتي، خلاص
- لأ، لأ مش صحيح.. أرجوكي، أنا محتاجلِك..
= الشباب مش محتاج لحد، بكرة هتلاقي بنت في سنّك وهتشوف.. هتبتدي حياتك وانتا حاسس إن جنبك شريكة لك، مش حمل تكون وراك..
- نايلة، انتي كل حاجة بالنسبالي
= أنا الماضي يا طارق، انتا المستقبل..
. . . . . . . .
"سناء جميل" بكارزميّتها وشخصيتها الجذابة هي حلاوة الفيلم كله، فمَع أنّ الفيلم يحكي قصتها في الأساس، فإن شخصيتها هي التي تتحرّك معها الأجواء التي تجعل من الحكاية مثيرة المتابعة؛ فعندما تحدث المُلاقاة العاطفية مثلًا، فإن ما يُقال هُنا أنّ "نايلة" هي من تنجرف إلى "طارق"، لا أن "طارق" هو من يُسحَر بغرام "ليلى"؛ لأنه من السهل على أي شاب -بطبيعة الحال- أن يقع في حب الفتاة الأولى التي يُقابلها، لكن ما ليس طبيعيًا في هذه الحالة هو أن تحب سيّدةً أربعينيةً أو ربما في نهاية الثلاثينات، شابًا بنصف عمرها.
القصة كلاسيكية الأجواء هذه هي ليست بالمُعالجة المبتكرة أو التي لم تُقدَّم من قبل مثلًا، لكن تميُّزها وقوّتها تأتي من فكرة السياق الثقافي الموضوعة فيه، فنحن لا نتحدّث عن شابان في مدينة نيويورك أو باريس يحدث بينهما هذا الصدام العاطفي، بل بالقاهرة، مصر. لذا فالموضوع "مختلف" لأن تنفيذ الحكاية في بيئةٍ كتلك تُكسبها ملامح وروح هذه البيئة.. ومِن هُنا يأتي قوّة الفيلم الحقيقية؛ أنه مصري.
من الملاحظ تأثُّر شاهين في هذا الفيلم تحديدًا بالسينما الأوروبية حيث كثرة التصوير في الشوارع وتحت أشعة الشمس، في اختيار المزيكا وفي الديكور وفي العديد من الأشياء.
ورغم أنّ في هذا الفيلم من الواضح على "شاهين" به أنه يريد حكي قصته فعلًا، أعني أكثر من بقية أفلامه التي ربما يسيطر عليها هواجسه الذاتية (التي صُدِرت بعد كده أقصِد)، إلا أنه به العديد من الأشياء الأخرى التي تجعله "فيلم مختلف" بمفهوم الفيلم الشاهيني.. فإذا نظرت للفيلم ستجده "فيلم قصة" بالأصل، فقصته هي الأهم في أچندته، لكن رغم ذلك هو لا يبخَل بالتميُّز على صعيد الـ(تصوير) والـ(مونتاچ) والـ(موسيقى) مثلًا.. وهذا بالنسبة لي أمرٌ مختلف لأن هذا المجهود المكثف لا يوضَع عادةً في قصصًا تبدو بسيطةً كقصة فيلمُنا هذا [كاتب سيناريو الفيلم هو "عبد الرحمن الشرقاوي" نفس كاتب الرواية المأخوذ عنها فيلم "الأرض"].
فمثلًا التصوير، اختار شاهين الاهتمام بالمكان (العاصمة، المناطق القريبة من برج القاهرة) بشكل ربما مُبالَغ قليلًا، فقرر تصوير مشاهد "توثيقية الطابع" من طائرةً هليكوبتر أكثر من مرة، تحوم فوق العاصمة مُتتبعةً بذلك السيارة (التي تقودها إحدى الشخصيتين البطلتين). لا أن الأمر ليس له علاقة بالموضوع.. حسنًا، ربما يكون كذلك، لكن ما أرمي إليه أنه كما أن "الاستسهال هو دائمًا شيء سلبي"، فإن "الاستصعاب أو التجمُّل ليس بالشيء الإيجابي دائمًا" كما قال شخصٌ ما ذات مرّة.
كما تميّز الفيلم بشكل واضح على صعيدي الموسيقى والمونتاچ، فالموسيقى التي وضعها الإيطالي "أنچلو لاڤانيني" كانت ممتازة، ولها أهم تأثير خلق أجواء الدارما بالفيلم. والمونتاچ أيضًا كان هائلًا، القطع جاء سلسًا، وخادم سيكولوچية الحدث بشدة. هُناك مشهد فوتومونتاچي تحديدًا أتذكر أنه أعجبني كثيرًا في هذه النقطة.
في النهاية "فجر يوم جديد" تجربة مختلفة وجيّدة للتعرف على شاهين بعيدًا عن الأفلام المشهورة التي صنعها، شاهين ذاته كان مُقدّم شخصية مثيرة للغاية بالفيلم، وقد كانت تجربةٌ كلاسيكيّةٌ رائعةٌ بالنسبة لي، أحببتها أفضل حتى من مُشاهدة أفلام شاهين الأشهر على الشاشة الكبيرة.