فيلم "يوم الدين" للمخرج أبو بكر شوقي يعد مثالًا على نقد بعض المشاكل الاجتماعية وأبرزها مشكلة نبذ المجتمع لمن يختلفوا عنه. مرض الجذام لم يتم عرضه بهذا الكم من الواقعية فى السينما المصرية ويتداخل مع ذلك فكرة الدين وبعض من فكرة الطبقة الاجتماعية ومفهوم العائلة؛ ولعل شوقي يبتعد عن الرمزية المتكلفة ويتجه إلى الواقعية البحتة مما يجعل المشاهد يدرك سريعًا رسالة الفيلم.
يشبه مشوار بشاي من الشمال إلى الجنوب بحثًا عن عائلته المشوار البدائى archetype التي يرى الفلاسفة أن البشرية توارثتها عن طريق العقل الجمعي، فبشاي يتحدى جذامه وينزح إلى الجنوب بهدف البحث عن أسرته.
هنا بشاي يمر بمواقف ويجد مخرجًا من بعضها ويستمر فى رحلته إلى الجنوب وتكون مكافأته في النهاية أن يقابل عائلته ومن ثم يتحلى بالحكمة واتخاذ القرار نحو عائلته الحقيقية في المستعمرة.
من ضمن عناصر المشوار البدائي فكرة الرفيق فغالبا يكون للبطل رفيقًا يعينه فى مشواره، وهنا أوباما، الطفل اليتيم يصاحب بشاي فى رحلته ويكون عونًا له فى بعض الأوقات.
كلنا منبوذون في المجتمع بشكل أو بآخر، هذه إحدى الأفكار المعروضة بالفيلم، فنرى بشاي مريض الجذام يعيش في مستعمرة للجذام ويتزوج ايرينى وحياته تسير بشكل مقبول داخل المستعمرة، ولكن من ثم أن يتخذ قرار الرحلة إلى قنا وحياته تبدأ فى أخذ منعطف آخر حيث ينفر منه الآخرون ويشعر بالاختلاف عنهم ولكنه يظل على قراره في الاستمرار في رحلته.
يذكر بشاي قبل بدء رحلته والده الذي أرسله إلى المستعمرة ووعده بالعودة إليه عند تعافيه ولكنه لم يعد أبدًا. عندما يلتق بشاي بوالده يعترف الأب باختلاف ابنه عن المجتمع وبقسوته عليه، فكحال أى اب أراد لابنه أن يحيا حياة كريمة بسعادة فما كان له إلا إرساله إلى المستعمرة ليعيش مع من مثله.
أهل مستعمرة الجذام الذين اشركهم بشاي في قراره حاولوا إقناع بشاي بخطورة رحلته وتوقعوا أن يموت تحت أحد الكبارى ولكن ما إن وصل بشاي إلى سوهاج حتى قابل بعض الشحاذين الذين يعيشون تحت تلك الكباري وقد التفوا هؤلاء حوله بالفعل وقدموا له ولأوباما يد العون.
هنا يجد بشاي أن "اللي تحت الكباري أحسن ناس". بالنظر إلى تلك المشاهد من عدسة اجتماعية، نجد توجيه الفيلم بعض من الضوء على مشكلة العدالة الاجتماعية، فهؤلاء الشحاذون ضحية للمجتمع الذي لا يقبلهم تمامًا كمرضى الجذام. نرى أيضًا أحدهم يساعد اوباما في معرفة اسمه الحقيقي "محمد عبد الرازق" ويسخر من البيروقراطية المصرية وهذا على عكس توقع المشاهد الذي قد لا يتوقع أبدًا أن هذا الرجل قد يكون على دراية بمصطلح كالبيروقراطية.
السؤال هنا، لماذا لم يضجر هؤلاء من بشاي كباقي المجتمع؟ هل لأنهم منبوذون مثله؟ من رأيي الشخصي أن المنبوذون لديهم نصيب وافر من الوضوح والتعبير عن مكنون انفسهم بدون نفاق؛ بالإضافة إلى أن النبذ يجعلهم أكثر فردية من غيرهم ولذلك قد يكون بعضهم أكثر عطاء وصدقًا عمن هم مقبولين إجتماعيًا.
هؤلاء من نبذهم المجتمع إن وجدوا روابط قوية داخل مجموعات، فهذا الترابط يجعلهم ذي قوة ومن ثم منحهم القدرة على العطاء.
في يوم الدين، نرى هؤلاء يعيشون في شوارع سوهاج ويعرفون بعضهم عن كثب كالأسرة وهنا ظهورهم يمد بشاي وأوباما بالمدد حتى الوصول إلى قنا.
من ضمن المهددين بالنبذ المجتمعي الطفل أوباما، رفيق بشاي في رحلته، الطفل ذو العشرة أعوام أسمر البشرة الذي ترعرع في دار الايتام وهى عوامل تجعله أقل مكانة من أقرانه فى المجتمع. أوباما الطفل النوبي الذي أغرقت مياه بحيرة ناصر أرض أجداده وتعايشه مع حقيقة أنه يتيم، كل هذا يجعله منبوذًا فى المجتمع تماما كبشاي فهما محرومان من إحساس العدالة إلا داخل دوائر معينة.
لعلنا ندرك أن بشاي مواطن صعيدي مسيحي ومجذوم، وهذا يأخذ بأذهاننا إلى فكرة الاقليات الدينية، فهل هذا هين على مواطن مسيحي العيش في صعيد مصر حتى وإن كان بلا جذام؟ هنا نرى بعض المشاهد تجيب على هذا السؤال، فنرى بشاي يجد نفسه داخل مجموعة من المتعصبين فيقول" اسمي محمد" واذكر جيدًا كيف علت أصوات التصفيق والضحك في صالة العرض عندهاـ فبشاى هنا أصبح يعي تمامًا خطورة الحياة الاجتماعية الطبيعية عليه.
يوم الدين يشير إلى أن الحالة الوحيدة للمساواة هى الموت، فعند الموت والبعث يتساوى الناس أمام الله بلا نبذ أو تمييز، فالغني والفقير يتلاقيان فكلاهما صنعهما الرب. حتى ان اختلفت ديانتك ومعتقدك فكلنا نتفق على حقيقة الموت ومساواته لنا.
الفيلم أيضًا يعيد بناء مفهوم العائلة، فهل بالضرورة لشخصية كبشاي أن يقبل عائلته وأن يبق معهم أم تصرف بشاى يتسم بالواقعية حينما قرر العودة إلى المستعمرة؟ إجابة السؤال تكمن في المثل الشعبي "الأم اللي ربت" فبشاي شعر بالألفة في مستعمرته وأغلب الظن أن وفاة زوجته ورؤيته لوالدتها كانت هى الدافع لرحلته إلى الجنوب. هنا، بشاي حقًا لا يملك شيئًا ليسعى وراءه خارج المستعمرة، فكان من الطبيعي قراره بالعودة إليها.
الواقعية تطغى على أجواء الفيلم حتى أن شوقي اختار راضي جمال للقيام بدور بشاي لأنه رأى فيه خير من يستطيع التعبير عن معاناته، ولعل واقعه كان أكثر مرارة من التمثيل.
اللغة في الفيلم بسيطة كما نسمعها في تعاملاتنا اليومية حتى عند مداعبة بشاي لأوباما ومناداته بلفظ جاموسة. اختيار شوقى أيضًا لأماكن تعبر عن واقع بشاي البسيط وطبيعة الاماكن التي يتحرك بينها كجبل القمامة وريف الصعيد. شخصية بشاي نفسها كشخصية رجل الشارع البسيط فهو لا يملك سوى قوت يومه وحماره الذي يعينه على ذلك ويشعر المشاهد بمدى ارتباط بشاي بحماره "حربي" .
نرى بشاي أيضًا مسالمًا لا يتلفظ بألفاظ نابية حتى وإن وجهت له وبالطبع نشعر بحسه الفكاهي فهو انسان يحب الضحك وإطلاق الطرافات.
من واقعية الفيلم أيضًا التضادات التي تجلب حس السخرية والنقد نحو المجتمع، فكما قال بشاي أنه محمد، كذلك محمد "أوباما" عندما يجد نفسه في بيت مسيحي يقول "اسمي أوباما زي الرئيس اللي بييجي في التليفزيون"، كذلك أيضًا عندما نسمع الرجل البسيط في سوهاج يسخر من النظام البيروقراطي المصرى الذي يمثل عبئًا على معظمنا ولكن تلك البيروقراطية ساعدته في معرفة اصل أوباما .
مرة أخرى، التضادات تجلب حس النقد الساخر للمشاهد فحتمًا هذا المجتمع يناقض نفسه بالتمييز بين أفراده.
أخيرًا، فيلم "يوم الدين" بمثابة تأمل في واقع التمييز المجتمعي، فكلنا بجميع خلفياتنا، ألواننا، طبقاتنا الاجتماعية... إلخ. تعرضنا أحيانًا للنبذ أو على الأقل شعرنا به. واقعية الفيلم ومناقشته فكرة كالجذام تلائم بعض الإشكاليات المطروحة في معظم دول العالم ومنها قيم المساواة والعدالة الاجتماعية. وآخرًا، كما ذكر الفيلم، المساواة الحقيقية لا توجد فى عالمنا، بل نلقاها جميعنا فى يوم العرض.