على مسرح "الهوسابير" في حي اﻷزبكيّة بالقاهرة، وعلى مدار الفترة الأخيرة من هذه الأيام، عرضت مسرحية "سينما ٣٠" للمخرج والمؤلف "محمود جمال الحديني"، وربما قراءتِكَ لعنوان المسرحية هذا يُعطيك انطباعًا أوّليًا أنها مسرحيةٌ مثيرة للاهتمام، وستُجمّع مُحبي وسيطيّ المسرح والسينما على حدٍ سواء.. وهذا تمامًا ما تفعله.
تحكي قصة المسرحية التي تدور في مدة ساعتين من الزمن تقريبًا، عن قرية ريفية بصعيد مصر تعرف بـ"ضيّ القمر" في فترة ثلاثينات القرن الماضي، يقوم بزيارتها شابان من أهل المدينة (مخرج سينمائي، ومُساعده اﻷول)، حيث قاموا بتخطيط عمل أول فيلمٌ مصريّ ناطق، وأسموه بـ(غرام في بلاد الريف). هذا من ناحية، من الناحية الأخرى هُناك أهل هذه القرية الذين نتعرّف عليهم عبر مقتطفاتٌ من حياتهم في العشرون دقيقة الأولى من بدء المسرحية؛ حيث تنحصر هذه الحياة في علاقتهم ومواقفهم الروتينية ببعض، في ظل اهتمامَهُم بالأراضي والمحاصيل التي يزعونها كي يُقايضونها بمستلزمات حياتية أخرى من القرى المُجاورة، أو بالنقود القليلة التي سوف يجنوها من عملهم. ويكون حدث مجئ الشابان من مصر إلى بلدتهِم بمثابة انطلاقة سلسلة من التصادمات والاكتشافات على الشابان، ليخرج منها الكثير من المواقف الجادة التي تتطلب قليلٌ من التفكير، وأكثر، مواقف كوميدية وأحيانًا هيستيرية، نتيجةً عن هذا التصادم الثقافي/الاجتماعي.
اختار المخرج أن يبدأ مسرحيته بعرض عدة مقاطع متتالية لمجموعة من أبرز مَشاهد السينما المِصريّة (مِنها؛ شيء من الخوف - شارع الحب - الأرض - اللص والكلاب - الزوجة ۱۳ - ابن حميدو)، وقد بدأها بمشاهد كوميدية طريفة، ثم انتقل للمشاهد الميلودرامية الجادة والقابضة، في إحالة لما سيكون عليه جسم المسرحية ذاته (بداية كوميدية مليئة بالمواقف المضحكة، ثم الميل للسوداويّة والجديّة قليلًا).. تستمر هذه الافتتاحية الفيلميّة للمسرحية قُرابة الخمسة عشر دقيقة، ومن ثمَّ، تُفتَح ستارة المسرحية، لتبدأ القصة..
"العملة اللي في بلدنا غير العملة اللي في فيلمَك يا سي اﻷفندي!"
إحدى الأسئلة التي كانت تدور في خُلدي قبل مُشاهدتي للمسرحية، هو إلى أيُّ مدى ستتقاطع المسرحية (كعمل فني مستقل بذاته) مع الـ"سينما"، بواقع أن القصة التي نراها على المسرح تدور معظم تفصيلاتها عن السينما كوسيط، وعلاقة الأشخاص بهذا الوسيط. بصورة مختصرة: كيف يمكن لشخص محب للسينما وضعيف أو منقطع الصلة بالمسرح، أن يتواصل ويُحب مسرحيةً كتلك؟، وهل يُمكن أن يحدث هذا أصلًا؟
. . .
بداية المسرحية بهذا الشكل، وضعنا في وضعية مُشاهد السينما لا مُشاهد المسرح، فأصبح هُناك خلط مُباشر وصريح بين المشاهد الفيلمية التي شاهدناها على اللوحة الكبيرة بالبداية (والتي جميعها جاءت بالأبيض والأسود، حتى في حالة الأفلام الملونة كفيلم "الأرض")، وبين الأشخاص والأشياء التي سنراها بعدًا في نفس الزاوية المكانية، المُقدَّمة أيضًا بلونين يبدوان كالأبيض والأسود (هم أخضر ورُماديّ في الحقيقة، بدرجاتهم الداكنة المختلفة).. هذا جعلنا نفرض أمرًا بيننا وبين أنفُسِنا منذ البداية أن 'الســينما والمــسرح' هُنا أصبحا متداخلان.
أما بالنسبة لمجريات القصة وتتابُعاتِها، فالسينما موجودة كموضوع، ومتجسدة على المسرح -كأفكار- في هيئة المخرجان، لأنهمُا الدخيلان على القريّة المُحمّلان بالثقافة المختلفة، وبالتصوّر المُعيّن تجاه ما سيجدوه في هذه القرية، وما ستكون عليه طبيعة علاقتهم مع الفلاحين والفلاحات اللذين يُريدان منهما التمثيل في الفيلم، لكنهُما كما يقولون للناس "خليكُم حقيقيين"، قاصدين بذلك عدم اصتناع التمثيل، يجدون ذات الكلمة توجه لهم من قِبل أحد الفلاحين "ازاي نكون حقيقيين وانتا مش عايز تشوف اللي فـ بلدنا، وعايزنا نعمل اللي فـ بالَك!؟".. وهُنا تبرز فكرة أخرى -سينمائية بحتة أيضًا-، ألا وهي نوع الفيلم؛ ففي حالة الفيلم التسجيلي لا يوجد تمثيل إنما رصد ونقل ما يحدث فعليًا في حياة الناس، أما الفيلم الروائي فشخصياته وقصصه خيالية، لكن الشابان لا يناقشان مع أهل القرية هذه الفكرة، بل يُجارياهُم أملًا بالحصول على مرادهم في نهاية اﻷمر، فيصبح عندنا ما يمكن اعتباره بالمُشاجرة على نوع الفيلم -روائي أم تسجيلي- في شكل مصغر؛ أهل القرية لا يحبون فكرة التصنُّع، والشابان القاهريّان يقومان بعمل اختبارات تمثيلية أو Casting لجميع مَن في القرية، ليجدوا الممثل المُناسب في هذا المكان.
كما تجدر الإشارة أن مبكرًا جدًا في المشهد الافتتاحي للمسرحية، نرى فتاةً من أهل القرية تقوم بحضن الجزء السفلي من الكاميرا الموضوعة سلفًا، لكن أهل القرية لا يلتفتون إليها، بل لا يعتبرونها موجودة أصلًا، بل أنّ كلّ همّهُم يكون في هذا الشيء الغريب الذي لم يروا له مثيلًا قبلًا (آلة التصوير السينمائية)، يتسائلون عن ماهيته، واصفين إياه بالـ"حديدة".
هناك أيضًا حركةً بسيطةً لكنها مُعبّرة للغاية، تمت من خلال مشهد حواري عابر؛ فعندما يصف أحدهم إحدى فتيات القرية البكماء، بالقول أنها "بكماء" في إشارةً ﻹمكانية إعتبار أن لديها قصورٌ ما في الفِهم، تقول شخصية المخرج مسرعةً: "بس هيّا بتشوف!"، وهذا كل ما في أمر السينما في واقع اﻷمر؛ إنه وسيط بصري باﻷصل، والصورة هي ما مفترض أن تحكي كل شيء، ومُشاهدة فتاةٌ بكماءٌ لفيلمٌ سينمائيٌ ليس من المفترض أن يُقلل من فهم القصة، لكن ربما يُقلل من التجربة الشعورية المنقولة من خلال الموسيقى مثلًا (وهي عامل إضافي في الفيلم، أو أحد الـ"مُكمّلات" كما يقولون).
كما أختُتِمَ العمل المسرحي بعرض ما يشبه الفيلم القصير عن عدة مقتطفات حدثت في قصة المسرحية (لتكون بمثابة نهاية سينمائية لمسرحية درامية!). وهي حركةً ذكيةً ومبتكرة للغاية في مزج وسيطين مختلفين ببعض.
"وهوّا فيه أحسن من الخـيال؟.. (!؟)"
لجأ كاتب القصة إلى عمل تماس بين (ما يريدانه المخرجان من أهل القرية مِن وجود قدرًا مِن التفكُّر والتفتُّح على فكرة وسيط السينما الذي يجسد الأحلام، والذي قد يكون منافيًا للواقع المُعاش.. والذي لا بأس في ذلك عليه!)، وبين وجود مثل هذه الأفكار -الهروبيّة من الواقع- في أحد النماذج الحيّة الموجودة بالفعل بين أهالي القرية، متمثل في شخص يُدعى "إبراهيم"، يقوم بهذه العملية في حياته دون إدراك.
فـ"إبراهيم" -الذي نتتبَّع حكايته في النصف الثاني من المسرحية- هو شخص يدلُف إلى أحلامه هربًا من قسوة واقعه، فقد سافر ورَحَل وذهب إلى أماكن عدة في خيالاته. مِنها مصر، أحد أحلامُه الذي يحلم بالذهاب إليها حيث تصوَّرها كما يحبّها أن تكون؛ فهي بالنسبة له كالمدينة اليوتوبيّة الخالية من أي ضرر أو شيء يُجثم على النفس، وهذا عكس ما يراه ويختبره يوميًا في حياته القروية التي لا تترك له مساحة الخيال فيها، بل أن حياته بمُجملها عبارةً عن معاناة وقهر وظلم من أصحاب النفوذ في القرية (العمدة وحاشيته). لذا ففكرة الـ Escapism تلك لا تنشأ نتيجةً عن أملٌ ما مدفونٌ منذ القدم مثلًا في شخصية إبراهيم.. لا، بل هي تنشأ في اﻷساس من واقع كرهه لمحيطه اليومي المُعاش.
وهنا تأتي السينما على أهل القرية كحدث تنويري، سيغير من الناس، وسيدفعهم للتفكير الجاد عن حرية التعبير، وحرية التفكُّر رغم ما ظهر عليهم من خوف غير سببي من هذا الـ"اختراع" الجديد في بادئ اﻷمر، وفي النهاية سيقرروا الثورة على العمدة ومن معه (المأمور والشيخ والباشا).
اﻷبيض واﻷسود هُنا له دلالات مختلفة إذا نظرنا لموضوع المسرحية؛ فإذا صوّر فيلمًا في مصر في تلك الفترة -الثلاثينات- سيكون باﻷبيض واﻷسود، وكان لا بُد من تجسيد المسرحية بهذان اللونان لعمل مُقاربة/أو مناصفة بين فكرة المسرحية والفيلم السينمائي الكلاسيكي. إضافةً لتفسيرات أخرى مُحتَمَلة كأن يكون لدلالة هذا اللون المبالغة بين شيئًا ونقيضه؛ فبالمسرحية هُناك كوميديا وجدّية، وهناك صراع -ثقافي في اﻷصل- بين الطبقة العليا القادم منها المخرجان، وبين الناس الغلابة (الطبقة الفقيرة).
إضافةً للثيم الشاعري للعمل، وأيضًا مسحة الكآبة فيه؛ حيث يعتبر موضوع المسرحية جادًا للغاية ويحثك كمتفرج على التفكير في أمور هامة كوجوب تمتع طبقة فقيرة كفلاحين/ات قرية نائية بالحرية التعبيرية والفكر (حيث لا يقلل منهم أحدًا)، لكن هذا لم يمنع اختيار المعالجة الطريفة التي تتخللها مواقف كوميدية حتى تصل هذه الفكرة إلى عقل المتفرّج، فالمسرحية مختلفة -من حيث الـ Look الخاص بها- عن أي مسرحية أخرى، وهي تُروّج نفسها بجملة "أول مسرحية باﻷبيض واﻷسود في مِصر والوطن العربي".
ركزت المسرحية في عرض قضيّتها على ثيمات عالميّة؛ كالحب (الذي نجده في علاقة المخرج بالفتاة البكماء)، وكـ"صراع الطبقات" الذي يوجَد كآثار لا كتيمة بارزة، بل أنه يميل هُنا أكثر لنتائج صراع الطبقات؛ وهو عدم فهم السياق بعد حصول "التصادم الثقافي".
فعندنا مخرجان قادمان من مصر أو الـ"بَندَر" كما أُطلق عليهم على لسان أهل القرية، هم محملان بانطباعتهم، ومعتقداتهم، وفكرهم تجاه القرية، وتجاه ما سيجدوه من أهلها.. وعلى الناحية اﻷخرى نجد أن أهل القرية ذاتهم هُم أبعد ما يكون عن ثقافة وفهم للأمور المقصودة من هذان الرجلان الغريبان، فتحصل اشتباكات فكرية عن مفهوم "فن السينما" مثلًا الذي يعتبره أهل القرية لا بد وأن يحوي قصصًا حقيقيةً من حياتهم، وأن التزييف/التمثيل/التقليد هُنا هو أمر خاطئ ومُحرَّم، خاصةً وأن القصة التي يطلبها المخرجان أن تُمثَّل من أهل القرية هي عن حالة غرام تحدث بين رجلٌ ومرأة في بلاد اﻷرياف الخاصة بِهم.. وفي النهاية لا يجد المخرجان سببًا أكثر إقناعًا لهم من النقود، فهم فقراء والنقود ستحركهم على الفعل أيًا كان.
ولا تتوقف اﻷمور عند هذا الحدّ، بل تتطور لحدوث عدم فهم بين شخصية مخرج العمل، وبين العسكري أو الضابِط الذي يأتي "منفذًا أوامر سيده" بضرورة إزاحة كل ما يُسبب اضطرابًا وتعطيلًا في القرية، فيحدث هنا مشابكة كلامية هدفها هو توضيح وجهة النظر من المخرج أن ما يفعله هذا لن يُشكّل شيئًا ممنوعًا أو مُنتَهكًا بحق أهل القرية، بل على العكس؛ هو يُساعدهم بأن تصل صورتهم لشريحة كبيرة من الجماهير الذين ربما لا يعلمون عن هذا المكان شيئًا واحدًا.
الصراع في هذه الحالة لا يكون عن الـ"صح" والـ"خطأ"، بل بتعريف الصح والخطأ بالنسبة لكل جهة من الطرفين المتنازعين.
بالتأكيد لا بد من الحديث عن التمثيل، ﻷنه الحكاية كلها تُقدّم بواسطة الممثلين على المسرح. والتمثيل هُنا جاء طيّبًا من الجميع، فحتى أصغر اﻷدوار كانت متقنة وفي محلها. أيضًا حركة الممثلين على الخشبة المسرحية كان سلسًا وكان كل شخص يعلم أين سيوجد في المكان الفُلاني بالوقت المحدد، فالمسرحية يشترك فيها قرابة الـ٧۰ ممثلًا في مجملها، والعدد التقريبي لمن هم موجودون معظم فترات المسرحية ۲۰ ممثلًا على المسرح، وحركاتهم المنضبطة تلك تدل على تدريبات مكثفة حصلت منهم.
الموسيقى أيضًا كانت هامة في إضفاء المشاعر، خاصةً في المفاصل المحورية للحكاية.
وانتهت المسرحية على نهج ميلودرامي (بعدما حصل ما حصل لشخصية إبراهيم) كي تُبرز من فكرته، أو من "رسالته"، لتكون السينما، في نهاية المطاف، هي وسيلة للتحرر الفكري ﻷهل القرية.
. . . .
لا أعلم لماذا كنت أُفكّر في معظم وقت مُشاهدتي للمسرحية في فيلم يوسف شاهين "اﻷرض"، ربما ﻷنه عُرِضَ ضمن المشاهد المقتَطَفة أول المسرحية، وربما ﻷن أجواء المسرحية ذاتها تشترك إلى حدٍ كبير مع أجواء الفيلم. مثلًا، الفتيات القرويات وأحاديثهم ودلعهم ومناهدتهم لبعضهم بعضًا تشبه كثيرًا المواقف الحاصلة من "وصيفة" وصديقاتِها الفلاحات في بداية فيلم شاهين.
تجدر اﻹشارة أن العرض المسرحي من تمثيل فريق/كاست المسرح بكلية التجارة - جامعة عين شمس، وهو شيء رائع أن تعلم أن مؤلف ومخرج المسرحية ذاته (د/محمود جمال) قد بدأ حياته الفنية كأحد الممثلين في هذه الفرقة، قبل أن يعود إليها فيما بعد لاختيار المميزين منها ليكونوا ممثلين مُشاركين بمسرحياته.
يذكر أيضًا أن المسرحية موجودة على «يوتيوب» منذ حوالي سنةً من اﻵن، وعدد مُشاهدتها تعدى الثمانية اﻵلاف.