"حسن فؤاد كان بيشتغل مع عبد الرحمن الشرقاوي على سيناريو فيلم ((الأرض)). الشرقاوي متعود يأجر بيت في آخر شارع خالد بن الوليد من ناحية البلاج ويصيف فيه، حسن فؤاد أجر شقة أوضتين على السطوح تقريبًا على بعد خطوتين منه ونقل هو ورضا على اسكندرية. ما كانش معاهم آلة كاتبة؛ الشغل كان بالإيد. رحنا نقضي كام يوم معاهم ورضا ست بيت ممتازة، وكويسة مع الضيوف، جابت معاها سيدة الست اللي بتساعدهم في مصر، مقيمة عندهم ومع رضا من سنين وربت منى بنتها، ست شاطرة بتشهل كل حاجة. رضا تقوم الصبح بدري قبل ما نصحى وتروح مع سيدة البحر تعوم، يرجعوا نكون يا دوبك بنقوم من النوم. سيدة تحضر لنا الفطار وبعدين ننزل شاطئ سيدي بشر، ورضا تيجي معانا بس نقعد تحت الشمسية وتشتغل برودري أو بيتي بوان -شغل إبرة- ما تنزلش البحر تاني، نرجع نلاقي سيدة محضرة الغدا. وفي هذه الأثناء حسن يروح لعبد الرحمن أو عبد الرحمن بيجي له ويقعدوا على الترابيزة الوحيدة في شقة المصيف ويشتغلوا على السيناريو، طول النهار شاي وقهوة، وبالليل ننضم لهم للشرب والعشا. قعدنا معاهم يومين لحد ما خلصوا السيناريو وكانوا سعداء واحتفلنا.." - مقتطف من كتاب (المولودة) للمخرجة نادية كامل.
• بداية مملة لا بد منها:
ماذا بعد الاحتفال؟ الأغلب أن شاهين وضع يده على الأرض وفي منزله عقد جلسات مع فؤاد بحضور الشرقاوي للوصول للرؤية النهائية للنص، غير أن يد أخرى يظل دورها خلف الكاميرا وتأثيرها في السيناريو غير مكتمل الملامح حتى وقتنا هذا؛ الحديث هنا عن " كرم مطاوع " الذي بشهادة العلايلي هو رب فكرة مشهد النهاية، وفي رواية شهيرة منسوبة للسعدني قيل أن كرم اشترك في كل التفاصيل الإخراجية للأرض غير أن شاهين أراد تحجيم كرم في دور (المخرج المنفذ) وهو ما أغضب الأخير وأدى لانسحابه، وعلى كلاً فتفاصيل تلك الحكاية ليست من أغراض المقال، لكن لكون هذا المقال يعتني بالتنقيب عن أبعاد جديدة في سيناريو الأرض فكان من الملح سرد سريع لمراحل تجهيز النص الأدبي للسينما، على أن نختص حسن فؤاد بدور البطولة في السطور القادمة لكونه السيناريست والمايسترو الذي واءم بين كل الرؤى وصبها في قالب غلفه برؤيته الخاصة الصادرة من قلب فنان تشكيلي رائد وعقل ناقد ثائر.
• الرواية..والفيلم:
الصراع هو لب رواية الأرض وعمادها بتعدد أوجهه السياسية منها والاجتماعية بل وحتى صراع قسوة التمدن مع سذاجة الأصل، مع العديد من الصراعات الإنسانية المبسطة، غير أن فؤاد قدم في السيناريو صراع إنساني فريد من نوعه قد يكون ظهر أو لنقل نما في الأوراق تبعًا لاحتياجات لغة السرد السينمائي. ما يهم هو أن ذلك الصراع ظهر بفضل تضخيم دور محمد أبوسليم (المليجي) ومنحه مساحة أكبر عما كان عليه بالرواية، ليصير بذلك هو (جوكر) هذا الصراع ومفتاحه بعديد من الجمل الحوارية التى نجح فؤاد بامتياز بدسها، وذلك ما سنكتفي بالتقاطه وتشريحه دون الاسترسال في باقي مواطن الإجادة التي تكمن في الحفاظ على نفس أجواء الرواية وأغراضها.
الحديث هنا عن الصراع مع ضغوطات السلطة وقد يكون هذا الصراع هو بالأساس جزء من الصراع السياسي بالرواية إلا أن طريقة العرض هيأت لانفصاله وتكوينه لخط درامي رئيسي بالفيلم يقيس مدى استجابة البشر للضغوط فيشرح بذلك دون تحذلق صنوف البشر في مواجهة (تحديات الحياة) ككل.
• صامد وهارب وبائع:
صراعنا مثلثي الشكل وأضلاعه الثلاث هم: محمد أبو سليم، والشيخ حسونة، والشيخ يوسف البقال. ولكل ضلع منهم بداخل هذا الصراع ظل تحيا فيه شخصية تمثل وحدة مستقلة بذاتها في الرواية؛ ففي ظل أبوسليم يحيا عبد الهادي، وفي ظل الشيخ حسونة يحيا محمد أفندي، وفي ظل الشيخ يوسف يحيا علواني! والملاحظ هنا أن التلاعب بأحجام الشخصيات الذي صنعه الفيلم أثره يظهر بوضوح في (عبد الهادي) و(أبو سويلم)؛ فالأول يرى البعض أنه أكثر الشخصيات بروزًا في الرواية، على عكس أبو سويلم الذي يهيمن على الفيلم بوضوح، ولاكتمال صورة هذا الصراع وجب تحليل شخصيات أبطال الصراع طبقًا للطريقة التقليدية بالإمساك بالأبعاد الثلاثة (الفيزيائي، والاجتماعي، والنفسي)، ولتكن البداية من عند أبو سويلم:
مشهد البداية يكن ملكه، يظهر فيه جالسًا على الأرض، يداعب ترابها؛ فيعكس لنا ذلك تعلقه بالأرض ككناية عن تعلقه بأفكاره ومبادئه، ليتبعه في الظهور ظله (عبد الهادي). الشكل والمظهر الذي يمثل البعد الفيزيائي يعكس لنا الصلابة، كذلك يعكس لنا الفقر فندخل بذلك سريعًا للبعد الاجتماعي بحيث نتحسس انتماء أبو سويلم لطبقة الفلاحين شبه المعدمين رغم أننا نعلم في المشاهد التالية أن أبو سويلم كان شيخ الغفر في السابق ، ليجتمع البعد الفيزيائي مع الاجتماعي ليكونا تركيبة نفسية معتدة بأصلها وصلبة تضعف منها الأيام وتنهكها ضربة بعد ضربة لكن شعلة الثورية مازالت تتراقص بوهن بداخله، ويظهر ذلك بحواره مع (الحاج) الذي من المفترض أنه والد الراوي بالرواية الذي اكتفى السيناريو بالإشارة له بـ(البيه الصغير) مع ملاحظة أن الراوي بالرواية تتلاشى نبرته شيئًا فشيئًا حتى تنهدر الأحداث بسلاسة بدون أثر له ومن ثم يعود بالفصول الأخيرة ليتسيد الحكى، بالحوار يسخط أبو سويلم على نوبة المياه وعطش الأرض ومن رد الحاج نستشف السلبية وازداوجية البشر في التعامل مع تلك النماذج الثورية أمثال أبو سويلم فالحاج ينطق في وجه أبوسويلم : "هتفضل طول عمرك رافع راسك يا أبو سويلم" وفي ظهره يقول للبيه الصغير أن أبو سويلم "أخرته وحشة"! ولعل كثيرًا ما عمد فؤاد لإيضاح رسم الشخصيات بالجمل الحوراية، وكذلك الحال في إيضاح تقارب الشخصيات الرئيسية من الأخرى التي تعيش بظلها أو بالأدق التي تمثل ظلها؛ فها نحن نرى خضرة تقول لوصيفة في إطار الحديث عن الزواج: "والنبي محمد أبو سويلم ده عمره ما يرتاح ولا يملى عينه إلا عبدالهادي..أصله زيه؛ كله لأ كله طاخ" لكن على الرغم من ذلك نرى تملص أبو سويلم الدائم من رغبة عبد الهادي في الزواج من وصيفة، وهو ما يمثل تناقض يظهر بالتقدم في التحليل؛ لذا يحين الآن دور الشخصية التالية في الصعود على المسرح.
الشيخ حسونة: سيرته في الفيلم تبدأ صوتية بحديث الآخرين عنه كدليل على ابتعاده عن مسرح الأحداث، ليسعى إليه ظله (محمد أفندي) ليجذبه لبقعة الضوء؛ فنرى الشيخ حسونة في مشهده الأول يلوم محمد أفندي على ما اقترف؛ وكأنه يلوم نفسه في الأفندي، والغوص في أبعاد الشخصية يبدأ من عند البعد الفيزيائي بحيث يعكس لنا وقار رجل تزين بملابس أهل العلم، كذلك يعكس لنا أثر النعمة عليه وهو ما يُوحى لنا ببعده الاجتماعي المبتعد عن بعد غالبية أهل قريته، وذلك يسهم في إيجاد تركيبة نفسية خادعة لأهل القرية ومن قبلهم المشاهد؛ فهيبتها المبنية على أطلال ما كان عليه من الثورية تخفي انهزاميته التي تتجلى في النهاية بهروبه متجنبًا الخسائر بعد ضمانه تنجب الطريق الزراعي لأرضه ومن قبل ذلك تظهر في رضوخه لأوامر الحكومة "زي ما قالت الحكومة..الرى خمس أيام بس" مبررًا ذلك بقوله: "المية في النيل يا عبد الهادي..الأرض لو راحت مش هترجع تاني"، وعلى الرغم من كون ابتعاد الشيخ حسونة طبقًا للرواية كان بأمر حكومي أشبه بالنفي إلا أن الفيلم اعتبر ذلك غطاء استغله حسونة لتجنب المخاطر، والبحث عن الراحة، ليأتي أبو سويلم ويكشف ذلك الغطاء في الحوار الشهير (كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة) بقوله : "وأنت يا شيخ حسونة..أنت فت بلدك وروحت البندر علشان تاكل العيش الأبيض وتتمرغ في تراب الميري".
الشيخ يوسف: "والشيخ يوسف..يا عيني على الشيخ يوسف، فتحله دكان علشان يشد لقمة العيش من بصلة الفلاحين الغلابة" بذلك انتقل أبو سويلم من حسونة إلى يوسف البقال الذي يظهر في الفيلم بواسطة ظله (علواني) الذي ارتمى في حضنه هربًا من ضربة أبو سويلم الذي تحداه علواني في التحطيب، فنرى من بعده الفيزيائي انسلاخه من بيئته التي يحيا بها؛ فبالقفطان المنمق نراه وهو ما يقودنا لبعد اجتماعي لتاجر بدرجة فلاح أسهل ما يملكه هو البيع، وذلك ما يخلف لنا تركيبة نفسية انهزامية تنقم على كل ما تفتقده؛ فهي ناقمة على الثورية والشهامة لكونها مفتقدة لهما الآن "مش كفاية البلد اللي حالها واقع من كتر المشاغبة"، وتكره الطين لكونها فقدته بعد ما أصبحت أرضه مرهونة لمحمد أفندي، لكنها تتخطى خطوط الانهزام لتدخل في حيز الجشع المفرط والخسة فلا يكتفي باستغلال عوز أهل قريته بل نتابع ارتماءه في أحضان محمود بيه طمعًا في العمودية، كذلك قبوله البيع لعمال الزراعية.
"بس كنا رجالة..ووقفنا وقفة رجالة"..هكذا كانوا؛ هكذا كان أبو سويلم، والشيخ حسونة، والشيخ يوسف؛ ثلاثة نماذج لشخصيات ثاروا في 1919 وحاربوا معًا، وبريشة حسن فؤاد وعين شاهين تابعنا اصطدام تلك النماذج مع نفسها ومع الحياة، واختبرنا مدى قدرة شعلة الثورة على البقاء في النفوس، فأوجد ذلك تفاوت منطقي تجده في الواقع، فلا حاجة للذهاب بعيًدا فما علينا سوى تذكر ما استيسر من أسماء ظهرت مع ثورة الخامس والعشرين من يناير ومعايرتها بالشخصيات الثلاث فحتمًا ستجد من بين تلك الأسماء من هو أبو سويلم، ومن هو الشيخ حسونة، ومن هو الشيخ يوسف.
على أن رغبة حسن فؤاد في تجسيد ذلك الصراع لم تجرفه نحو إخراج الشخصيات من حيز المنطقية؛ فعلى سبيل المثال فأبو سويلم هو نموذج ثائر لكنه ممتثل لأفكار بيئته فيرى كغيره في الشارب رمز للرجولة وينصح عبد الهادي بعدم السماح لزوجته بالمعارضة حتى لو كان هو المخطئ "أوعى يا عبد الهادي مراتك تمشي كلامها عليك" كما شهدنا في أمره بخبز فطيرة لعبد الهادي بآخر ما تبقا من قمح . كذلك لم يغريه ثراء شخصيات أخرى حملتها الرواية كعم كساب السائق الذي اختفى باختفاء دور الرواي بالفيلم، أو دياب، أو الشيخ الشعبان، أو الشاويش عبدالله، أو خضرة وغيرهم؛ فيجعله يؤثر استعراض ثراء تلك الشخصيات على حساب فكرته الرئيسية، وإنما وُضعت مقادير الطبخة كما يجب، حتى لو استلزم ذلك تقليص لأدوار شخصيات ذات تأثير ضخم بالرواية كعبد الهادي ووصيفة، وقد اُستغلت قدرة الكاميرا على اختزال فكرة تُجسد في مئات السطور بالترميز بالشكل الأمثل ولنا في مشهد حمل العمدة لكلب محمود بيه مثال، الكاميرا التى أرتنا قرب عبد الهادي من محمد أبو سويلم؛ فتواجدهم معًا فى أغلب المشاهد هيأ لذلك، وكان أدق تلك المشاهد اقتراح عبد الهادي لرمي حديد الزراعية في الترعة، لينفلت لسان الشيخ يوسف بـ: "عفارم عليك يا أبو سليم"، على أن هي نفسها الكاميرا التي نقلت لنا فرار الشخصيات من ظلالها كنوع من الهروب من الانهزام النفسي؛ فأبو سويلم يتهرب من رغبة عبد الهادي بالزواج من وصيفة راغبًا في تزويجها بأحد رجال البندر لإبعادها عن الأرض التي هو بغير قادر على فراقها، والشيخ حسونة دائم السخط على محمد أفندي -ظهر ذلك بشكل أوضح بالرواية- ، والشيخ يوسف دائم النفور من أفعال علواني العرباوي وإلحاحه على طلب الشاي والسكر ،هذا الثنائي الأخير الذي على الرغم من الفروق الكبيرة بين البعد الفيزيائي والاجتماعي لكل منهما إلا أن الرابط -غير إكبار وحب علواني للشيخ يوسف- بين الشخصيتين نجده في مشهد ما قبل النهاية بإلحاح علواني على عبد الهادي ببيع الأرض وشراء أغنام يتولى علواني رعيها مستغلاً لحالة الخوف التي تسيطر على الجميع بجانب أنه بلا أرض والشيخ يوسف تخلى عن أرضه كرهن عند محمد أفندي، وهي للحق روابط هشة بعكس محمد أفندي الذي نراه على نهج خاله الشيخ حسونة بمشهد النهاية يفر فور أن تطأ العساكر الأرض ومن خلفه آخرون يصيحون : "أجري يا محمد أفندي..أجروا يا رجالة ملناش دعوة أحنا"، بينما عبد الهادي حينها يكن ساجيًا على الأرض في عجز والعساكر من حوله، ليشاهد أبو سويلم يُسحل عاجزًا في نهاية اختلقها كرم مطاوع لم يستطع أحد أن ينساها أبدًا.
"وتقدمت بنا العربة في الزحام الذي يختلط بأحلامي..وشاهدت بوضوح أحلامي تموج بزحام الناس..وظلت العربة تمضي بنا في شوارع القاهرة..وعروقي تنبض بأشياء عديدة من قريتي..أشياء لم استطع أن أنساها أبدًا". - السطور الأخيرة من رواية الأرض لعبد الرحمن الشرقاوي.