في مهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي والقصير: غربة الإنسان داخل وطنه وخارجه

  • نقد
  • 03:46 مساءً - 16 ابريل 2019
  • 6 صور



يكتسب الفيلم الجيد قيمته من قدرته على التأثير في نفس المتلقي وأثار عاطفته واهتمامه، ومن خلال الدورة الـ21 لمهرجان الإسماعيلية للفيلم التسجيلي والقصير، تابعت عددًا كبيرًا من الأفلام تستحق الإشادة والاهتمام، ولكن القليل منها الذي يمكن أن يترك في النفس أثرًا وعاطفة بالسلب أو الإيجاب، فلم يعد الفيلم التسجيلي يرصد ظواهر أو يتابع بحياد حياة مجموعات من البشر، ولكنه مثل الأفلام الروائية أصبح شديد الاهتمام بتحريك مشاعر المتلقي تجاه قضية ما أو مجتمع إنساني تتعرف عليه من داخله، ومن أجل الوصول لتلك النتيجة يقوم مخرج الفيلم بعمل دراسات وجمع معلومات قد تستغرق منه سنوات طويلة يلتقى فيها بعشرات الشخصيات في أماكن متفرقة من العالم، وهذا الجهد يضاف إلى قيمة الفيلم عندما يتوافر له روح الإبداع والإبتكار، وقد استوقفني فيلمين كانا في رأيي هما الاكثر إكتمالًا من حيث قيمته الموضوع وأهميته بالاضافة إلى قدرته على التأثير في المتلقي.

أولهما من حيث العرض كان فيلم "تأتون من بعيد" للمخرجة أمل رمسيس، وهو رحلة شيقة ومؤلمة ومليئة بالمشاعر المتباينة والمعلومات التي ربما نسمع عنها للمرة الأولى، طرحتها المخرجة بسلاسة رغم رحلة الشقاء التي خاضتها طوال ما يزيد عن عشر سنوات للبحث عن جذور عائلة المناضل الفلسطيني اليساري نجاتي صدقي في البداية، وعن طريق الصدفة وقع في يد أمل رمسيس قصاصة من جريدة عن أن الحرب الأهلية الإسبانية ضد الطاغية فرانكو، شارك فيها بعض العرب، ومع البحث والتنقيب اكتشفت أمل رمسيس أن بين هؤلاء العرب كان الفلسطيني نجاتي صدقي الذي ترك بلاده وجاء للنضال مع الاسبان، وذلك كان قبل الحرب العالمية، وقبل ابتلاء أرض فلسطين بالاستعمار الاسرائيلي، نظرًا لظروف الحرب وأضراره للرحيل والتجول من مكان لآخر، ترك ابنته الكبرى دولت في ملجأ فى موسكو، ومرت الحرب العالمية وما تلاها من أحداث وتقسيم العالم العربي بين إنجلترا وفرنسا وإيطاليا، وكان نجاتي صدقي دائم التجوال والحركة وأنجب ابنته الثانية وابنه سعيد.

الظروف السياسية هى خلفية ضرورية لمعرفة ما حدث لأسرة هذا المناضل، حيث عاش أبنائه الثلاث في أماكن جغرافية مختلفة، يصعب معها التقائهم، لايجمع بينهم إلا ألبومات الصور، وخطابات تتطور مع الزمن إلى محادثات هاتفية ثم لقاء عن طريق سكايب، وكان صعوبة الموضوع أن دولت التي نشأت في المجتمع الروسي وأصبحت لا تتحدث العربية ولا تفهمها ولكنها تخبرنا أنها تشعر بسعادة وهى تستمع إلى شقيقتها، وهى تتحدث العربية، وبعد سنوات طويلة من البعد، تنجح المخرجة أمل رمسيس أن تجمع الأسرة بعد أن أصبحت دولت على مشارف النهاية وحالت ظروفها الصحية لسفرها لبيروت للقاءها مع أشقاءها، وقررت أمل رمسيس أن يذهب الجميع إلى موسكو للقاء دولت، وكانت لحظة عاطفية مليئة بالأمل والشجن والحنين، عندما يلتقي الأشقاء الثلاث، وقد تخطت أعمارهم الستين وأخذت الغربة من سكينة أرواحهم، وأوصت دولت أن تٌدفن رفاتها في القدس حيث لا بد للإنسان أن يعود إلى مهبط رأسه مهما طال به البعاد. وكان ما صورته المخرجة أمل رمسيس هو اللقاء الاخير بين الأشقاء الثلاث، وبعد عدة أشهر من تصوير الفيلم، توفيت دولت الابنة الكبرى، ولم يستطع أخوتها نظرًا لتعقيد الظروف السياسية من دفن رفاتها كما أوصت في القدس، ولكن أحفادها أخذوا على أنفسهم وعدًا بضرورة تحقيق رغبتها الأخيرة، وهو موضوع يصلح لفيلم أخر يستحق أن يظهر إلى النور سواء بصيغه تسجيلية أو روائية، فأهم ماتقدمه الأفلام هى حكايات البشر.

.................................

مع فيلم "معجزة البقاء" يقدم المخرج حسن صالح ويني رحله شيقة ومثيرة للبحث عن جذور الغجر، لنتعرف على تاريخهم ونشأتهم، ومن أين أتوا وإلى أين يمضون، والمعروف ان الغجر مجموعة رحالة لا يستقرون في مكان. الغجر بالانجليزية هم الجيبسي، وهو ما يوحي بأن جذورهم أتت من مصر من قرون بعيدة تعود إلى ما قبل زمن المماليك، وسوف تجد مجموعات منهم تتواجد في مناطق حدودية في دول أوروبا ودول البلقان ويوغوسلافيا قبل تفككها، وقد صنع عنهم المخرج البوسني أمير كوستاريجا فيلم عظيم يحمل اسم زمن الغجر Time of Gypsies شارك به في مهرجان كان السينمائي في عام 1988، كما ظهرت أفلام أوروبية كثيرة عن عالم الغجر، منها طبعا أحدب نوتردام المأخوذ عن قصه فيكتور هوجو، وقد تم تقديمه في نسخ كثيرة لعبت بطولة إحداها الإيطالية جينا لولو بريجيدا وانتوني كوين، ويروي قصة أزميرالدا التي ألهبت مشاعر القس المتحفظ ودفعته لمحاوله قتلها ليتخلص من غوايتها، ولم ينقذها منه ومن أهل القرية الغاضبين إلا الأحدب الذي خطفها واختفى معها فوق قمة الكاتدرائية الشهيرة نوتردام، كما قدم فيلم كارمن صوره من حياه الفتاة التي تعشق الحرية، وتثير الجميع بسحرها ويقع العشاق تحت أرجلها، فيؤدي بها إلى نهاية مفجعة. فتيات الغجر يشتهرن بالجمال والسحر ومعظمهن يعملن في الترفيه والرقص والغناء وعزف الموسيقى وقراءة الطالع، وبعض الألعاب البهلوانية الحركية.

وقدمت السينما المصرية بعض الأفلام عن حياة الغجر أشهرها (تمر حنة) بطولة رشدي أباظة ونعيمة عاكف، وغازية من سنباط بطولة شريفة فاضل، وينقسم الغجر إلى تصنيفات منهم النَور، أنشطتهم السرقة والنشل في الموالد، والهنجرانية، والحلب القادمون من مناطق في الشام، ولأنهم غالبًا ما يقابلون بإنكار وتوجس من المجتمع لأنهم مجموعات مغلقة على نفسها، فقد أصبحوا في كثير من الأزمنة مطاردين من القانون، ومنبوذين، وقد استعان المخرج حسن صالح ويني بمجموعة من الدارسين للتحدث عن تاريخ الغجر وتصنيفهم، وكان حديث المخرج والباحث محمد حسان عاشور أهم وأمتع ما جاء في فيلم "معجزة البقاء" حيث طرح مجموعة من أسماء نجوم الطرب الشعبي الذين برزوا من مجموعات الغجر، منهم متقال الذي أصبح ظاهرة في الستينات والسبعينات، ووصلت شهرته إلى أوروبا أثناء جولاته الفنية، بالاضافة إلى خضرة محمد خضر التي اكتشفها زكريا الحجاوي ثم تزوج بها وتبنى فنها وقدمها لجمهور التليفزيون المصري من خلال برنامج (الفن الشعبي) الذي كان يقدم في السبعينات من القرن الفائت، كما عرض الفيلم حوارًا مع أخر راقصات أو غوازي الغجر لتتحدث عن تاريخ عائلة بنات مازن اللاتي احترفن إحياء الأفراح في مدن الصعيد، ويمتزن بملابسن المزركشة الجميلة وقدرتهن على الدق بالصاجات والغناء الشعبي، والوشم على مناطق من الوجه والجسد، وغالبًا ما يضعن سنة ذهب في مقدمه الفم! ربما تؤدي حركة الحياة المعاصرة إلى اختفاء مجموعات الغجر، وبالتالى اندثار فنونهم مع الوقت، ولكن بينهم من يحارب للبقاء، ومثل تلك الأفلام سوف تساهم في نقل تاريخهم عبر الأجيال فالسينما كانت ولاتزال أهم وثيقة مرئية مسموعة لحفظ تراث الإنسانية.




تعليقات