فيلم "The Banshees Of Inisherin" المعاناة داخل الفردوس

  • نقد
  • 07:22 مساءً - 6 اغسطس 2023
  • 4 صور



"لا توجد جنة في الأرض، وإنما أجزاء منها" هذه ليست مجرد مقولة واقعية للمؤلف والكاتب المسرحي الفرنسي "جول رينارد" ولكنها أيضًا إحدى الرمزيات التي وظفها المخرج الإنجليزي "مارتن ماكدونا" في فيلمه The Banshees Of Inisherin أو "حوريات إنيشيرين"، والفيلم من بطولة "كولين فاريل"، و"برندان جليسون" و"كيري كوندون" وتم العرض الأول للفيلم في مهرجان البندقية السينمائي الدولي في 5 سبتمبر 2022، وترشح الفيلم لعدة جوائز دولية وحصل على جائزة الجولدن جلوب. من عنوان الفيلم سنجد أن Banshees تعني سيدة تلال البرية، وهي أسطورة من الفلكلور الشعبي السلتي (إسكتلندا، وأيرلندا) تحكي عن أرواح أو جنيات مؤنثة، ظهورها يعتبر نذير شؤم حيث يُنبئ بموت قادم لأحد أفراد القرية أو العائلة، وتسكن هذه الجنيات التلال الموجودة في الريف الأوروبي وتشبه في شكلها العجوز القبيحة ذات الملامح الشريرة، أما "إينشيرين" فهي جزيرة جميلة ومنعزلة تقع في أيرلندا. قصة العمل تدور أحداث العمل في عام 1923 خلال الحرب الأهلية البولندية والتي بدأت في يونيو 1922 وانتهت في مايو 1923، ويعتبر الفيلم من نوعية أفلام الـ" Black Tragicomedy" أو الكوميديا السوداء التراجيدية، والتي تجتمع فيها الملهاة مع المأساة فتنتهي الكوميديا بمأساة في تيمة أقرب إلى تيمة مسرحيات الكاتب العالمي وليم شكسبير، حيث يبدأ العمل بحدث مفجر حينما يقرر "كولم"، والذي جسد شخصيته الفنان "بريندان جليسون"، أن يقطع علاقته بصديقه المقرب "بادريك"، والذي جسد شخصيته "كولين فاريل"، وبلا أي مقدمات، والسبب وراء ذلك شعور "كولم" بالملل من هذه العلاقة واعتبار الحديث اليومي مع صديقه "بادريك" في الحانة مجرد ثرثرة مضيعة للوقت، حيث يصاب بالإكتئاب ويشعر بالندم على حياته الماضية التي ضاعت بلا جدوى فيقرر أن يتخلى عن هذه الصداقة القوية ويكرس الباقي من حياته لعمل شيء يخلد اسمه بعد موته وهي مقطوعة موسيقية يعمل جاهدًا على تأليفها. تتصاعد الأحداث عندما يسعى "بادريك" جاهدًا لاستعادة هذه الصداقة بشتى الطرق، غير مقتنع بمبررات صديقه السابق "كولم" والذي تخلى عنه طواعية، فتنقلب الأحداث إلى مأساة.

جمال الطبيعة وقبح النفس البشرية عندما نرى كادرات العمل سنجد أننا أمام كادرات أقرب للوحة الفنية من حيث جماليات التكوين، وتوزيع الإضاءة، ودقة الألوان، ومثلما نجح مخرج العمل وفريقه في إبراز جمال الطبيعة نجح أيضًا في التعمق في أبعاد الشخصيات، وتصويرها ووصفها ببراعة، فصنع لكل شخصية صراعها ومعاناتها وهذا ما جعلنا نتوحد مع الشخصيات وتنتقل إلينا معاناتها ونتعاطف معها، كما كانت أيضًا الدوافع لكل شخصية من شخصيات العمل قوية مما جعلت التحول الدرامي أكثر منطقية وحبكة وهذا شيء تفتقده العديد من الأعمال الفنية. وقد نجح المخرج في توظيف البعد الفلسفي لوصف الأنماط المختلفة للبشر لتعكس رمزيات ودلالات تعبر عن طبيعة الحياة بما تحمله من عبثية وصراعات وتناقضات، فبطل العمل "بادريك" شخص بسيط وعفوي يحب الطبيعة والحيوانات والبشر ويمثل الحب والسلام، أما "كولم" صديقه فهو يعبر عن الطبيعة البشرية الملولة التي تسعى للخلود وتميل إلى عدم الاستقرار والتقلب المزاجي فلا حب مستمر، ولا كره دائم، أما "شوبان" أخت "بادريك" فتمثل الشخصية المستنيرة التي تشعر بالمعاناة بسبب معرفتها وثقافتها التي جعلتها تدرك الحقائق، ومن ناحية أخرى هي شخصية حنونة وراقية وتميل إلى الواقعية والاتزان على عكس أخيها الذي يعيش بفطرته، أما الشرطي "جاردا" فيمثل الاستخدام السيئ للسلطة بما يحمله من قسوة في التعامل مع الغير والظلم خاصة تجاه ابنه "دومينيك"، والذي يتعرض للعنف والقهر من قِبَل أقرب شخص له وهو والده.

ومن أكثر العناصر المميزة في صياغة الشخصيات هو وجود التناقض بين الصديقين "بادريك" و"كولم"، فالتناقض يبرز المعنى والدلالات ويعمق من طبيعة الصراع، وأيضًا رمز هذا التناقض للبعد الفلسفي الذي يعكس جدلية الصراع الدائم بين القلب والعقل، فإذا كان "بادريك" بعفويته وطبيعته التي تميل للود والحب أقرب للقلب، فصديقه "كولم" بشخصيته الواقعية التي تصل في بعض الأحيان إلى درجة الحدة في التعامل تمثل العقل. ورغم أن العمل يبدو أقرب من حيث السرد إلى القصص التقليدية ولكنَّ له طابعًا خاصًّا ومميزًا حيث تمت صياغته بحرفية تجعل المشاهد لا يشعر بالملل، كما تناسب أيضًا إيقاع العمل مع أسلوب السرد القصصي غير الممل، والذي يترك للمشاهد انطباعًا جيدًا ودائمًا تجاه هذا العمل. أينما وجد البشر وجدت الحرب في الدقائق الأولى من الفيلم نجد أننا نشاهد جزيرة جميلة يسكنها أشخاص مسالمون، تمتاز بالمناظر الطبيعية الخلابة، فاللون الأخضر يرمز للخصوبة والطبيعة والسلام، والأزرق السماوي يعبر عن الصفاء، وهما اللونان الأكثر بروزًا في الجزيرة، بالإضافة إلى الهدوء وحالة الاستقرار وعزلة الجزيرة التي تجعلنا نشعر بأننا في مكان أشبه بالفردوس يبعد عن الحرب الأهلية التي تبتعد عنها عدة أميال، ولكن في الواقع تنفجر على هذه الجزيرة حرب من نوع آخر، وهي أيضًا ترمز للحرب الأهلية حينما يتحول أقرب الأصدقاء إلى أعداء، وقد وظف صناع العمل التيمات التي تعبر عن المعاناة البشرية لإشعال هذه الحرب مثل (الملل، الخذلان، الفقد، الكره، الانتقام) وتم تحويلها إلى مفردات سينمائية مستخدمين العناصر السينمائية بحرفية شديدة تجعل هذه الجنة تتحول إلى ساحة للحرب والانتقام مما يؤكد النظرة الواقعية التي تقول إن الفردوس في السماء فقط.


وصلات



تعليقات