جولة ميم المملة، والدخول إلى عالم المتمرد والمتفرد "محمد حافظ رجب"

  • مقال
  • 11:43 مساءً - 28 يوليو 2024
  • 6 صور



قبل عدة سنوات، قررت المخرجة هند بكر مع مجموعة من أصدقاءها استضافة أحد كتابهم المفضلين "محمد حافظ رجب" في ندوة أدبية بمدينة الإسكندرية للاحتفاء به، والذي ظل صامتا طوال مدة الندوة ومندهشا من جميع الحاضرين الذين يحتفون به ويتناقشون في أعماله، إلى أن تكلم بعد إلحاح شديد وقال جملة قصيرة ومقتضبة:(ما مضى قد مضى.. والمأساة تتكرر).

بعد هذه الندوة، عزمت هند بكر على صناعة فيلم تسجيلي عن هذا الكاتب المتفرد والمنسي، واقتحمت بكاميرتها عزلته التي اعتاد عليها منذ أكثر من 30 سنة، حيث كان يعيش في شقته المتواضعة بمنطقة الورديان بالأسكندرية، وكانت تشاركه السكن في آخر سنواته ابنته الوحيدة الشاعرة (سامية).

الفيلم اعتمد في بدايته على توثيق حياة حافظ رجب في جميع مراحلها، بداية من طفولته وعلاقته مع عائلته ومراحله الدراسية التي لم تكتمل، مرورا بعمله كبائع لب وفول سوداني بمحطة الرمل ودخوله مجال الأدب عبر بوابة القصة القصيرة؛ ليذيع صيته ويصبح من أهم كتاب القصة القصيرة في الستينات ويسافر إلى القاهرة ليعمل في مجال الثقافة، انتهاء بعودته مهزوما إلى الإسكندرية لينغمس في عزلته التي اختارها وفرضها على نفسه، وجعلته يعتزل العالم الخارجي بكل ما فيه، بل ويعتزل بعدها الكتابة أيضا، وتصبح حياته وتحركاته محصورة بين أركان شقته الصغيرة ذات الغرفتين وصالة، ويدور روتين حياته اليومي المتكرر ما بين الصلاة والنوم والأكل والقراءة والتأمل، ويتابع فقط ما يدور في العالم الخارجي من خلال شاشة التلفزيون، أو من على شرفته المطلة على الشارع.
وقد عبر عن هذه العزلة بشكل غير مباشر -قبل أن يقرر العزلة- من خلال مفتتح قصة مخلوقات براد الشاي المغلي :"أنا رجل تكتنفني الغربة في كل الأركان.. توقفت عن المسير مؤقتا... أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رفّ.. أعرض فوقها الحظ معلقا فوق حبل: أوراق يانصيب...".

وغاص بعدها الفيلم في بحر عميق من الأسئلة المؤجلة لسنوات طويلة؛ للبحث عن أجوبة حول أسباب عزلة حافظ رجب وابتعاده عن الساحة والأدبية والثقافية.

كما يصور الفيلم أيضا أهم صفة في شخصية حافظ رجب، ألا وهي التمرد، والتي كان بسببها دائما ما يثور على أبيه وأسرته منذ صغره، وجعلته يهرب في ليلة زفافه –المغصوب عليها- للذهاب إلى السينما، بل ويطلق في عز شهرته تصريحه الشهير والمثير للجدل "نحن جيل بلا أساتذة"، والذي دخل بسببه في مصادمات وعداءات مع أدباء جيله والجيل الذي يسبقهم -الذين يعتبرونهم أساتذتهم- باعتباره متمردا عليهم.
وقد برز هذا التمرد بشكل أوضح من خلال كتاباته الأدبية، حيث خلق لنفسه أسلوبا سرديا سرياليا يحلق بعيدا عن الواقع، ضاربا بعرض الحائط كل أنماط وأشكال القصة القصيرة الكلاسيكية المتعارف عليها، والتي جعلت نجيب محفوظ يثني عليه ويقدمه في ندوته الإسبوعية ويصفه بأنه "سريالي في عالم واقعي"، وأصبح بسبب أسلوبه الفريد رائد التجديد –والتجريب أيضا- في القصة العربية الحديثة.
وأما بالنسبة لعميلة صناعة الفيلم نفسه، فقد استغرقت حوالي 6 سنوات على فترات متقطعة، ما بين فترة التحضير والمعايشة والتصوير ومراحل المونتاج ومابعد المونتاج، والتي صادفها وفاة محمد حافظ رجب في عام 2021، ملتحقا بابنته سامية التي توفت قبله بشهرين، دون أن يشاهدوا الفيلم!

وكان إنتاج الفيلم منذ بدايته ذاتيا ومستقلا وبدون تمويل أو دعم من جهات أخرى، حيث اعتمد فقط على إنتاج هند بكر وشركاءها في شركة إنتاجهم المستقلة "روفيز"، ليخرج بعدها الفيلم إلى النور حاملا اسم "جولة ميم المملة"، على اسم إحدى قصص حافظ رجب.

وقد عرض الفيلم لأول مرة في عام 2023 في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، ثم انتقل إلى مهرجان عمان السينمائي، ومهرجان قابس سينما فن حيث نال تنويهًا خاصًا من لجنة التحكيم، ثم عُرض في المهرجان الدولي للأفلام الوثائقية المستقلة (أوسا) وفاز بتنويه خاص للإنسانية والاستمرارية من لجنة تحكيم المسابقة الرسمية.

كما شارك في مهرجان تورنتو للفيلم العربي وحصل على إشادة شرفية، بالإضافة إلى عرضه في معهد جوته ومركز الجيزويت الثقافي في الإسكندرية، وكان العرض التجاري الأول في 25 يوليو 2024 بسينما زاوية في القاهرة.




تعليقات