في عالم مضطرب تسوده الفوضى واليأس، تظهر قوة الأمومة كتجسيد حي لأسمى معاني التضحية في فيلم «حاوية في عرض البحر» (2023) هو فيلم إسباني NOWHERE، بطولة آنا كاستيلو وتامار نوفاس، تدور قصته حول «ميا» وهي امرأة حامل في شهرها التاسع، تحاول الهروب مع زوجها نيكو من بلدها بسبب الظروف القاسية التي فرضها الحكام، فقد قرروا قتل النساء الحوامل للتصدي للأزمة الاقتصادية في البلاد، في محاولة للهروب، يركبان باخرة تحمل شاحنات بضائع، لكن سرعان ما تفترق عن زوجها، ويتم وضعها في إحدى الشاحنات التي تحتوي على عدد كبير من النساء الحوامل، تتصاعد الأحداث بشكل مرعب عندما يكتشف الأمن وجود النساء ويقومون بقتلهن جميعًا، ما عدا ميا التي تتمكن من الاختباء داخل مخبأ علوي في الحاوية. مع استمرار الباخرة في السير، تشتد الرياح في عرض البحر، فتسقط الحاوية، وتجد ميا نفسها وحيدة في عرض البحر داخل حاوية مقفلة، محاطة بالمخاطر والتحديات لإبقاء الروح الصغيرة على قيد الحياة والنجاة من هذا الموقف المأساوي. في فيلم «حاوية في عرض البحر» تتجسد مأساة الإنسان في أبسط صورها وأكثرها إيلامًا، حيث يتخطى السرد البصري كل الحدود ليروي قصة صمود ميا، الفيلم يعتمد بشكل أساسي على المشاهد المرئية التي تجسد عزلتها ومعاناتها، وتدفع المشاهد إلى التوحد مع تجربتها في تلك المساحة الضيقة والمظلمة، حيث تصارع لإبقاء ما في أحشائها حيًا، فيأخذ الفيلم منعطفًا أكثر دراماتيكية عندما تلد طفلتها داخل الحاوية؛ حيث تخرج الصغيرة من رحم الأم إلى «رحم» الحاوية المغلقة، وسط ظروف مرعبة تنذر بالموت. تزداد حدة المأساة عندما تنفد مؤونتها، فتضطر إلى أكل المشيمة التي خرجت أثناء الولادة لتستمد منها بعض الطاقة لإرضاع طفلتها، مشهد صعب يجسد التضحية من أجل إنقاذ الصغيرة، ثم إن الحاوية تصبح رحمًا آخر تعاني فيه ميا من مخاض جديد. ثلاث مخاضات عانتها ميا للحفاظ على حياة صغيرتها؛ مخاض الهروب من البلاد، مخاض الإنجاب، ومخاض الخروج من الحاوية. ما يجعل هذا الفيلم فريدًا، إلى جانب قوة فكرة القصة، هو الإخراج وبراعة تحركات الكاميرة داخل هذه الحاوية، تكون الكاميرة محصورة مثل ميا داخل الجدران الضيقة، ولا يرى المشاهد سوى ما يظهر من خلال الثقوب التي أحدثتها طلقات النار في جدران الحاوية، هذا التركيز البصري يعمق من تجربة المشاهد ويشعره وكأنه محبوس داخل الحاوية، يعيش كل لحظة من الخوف واليأس التي تعيشها البطلة وطفلتها. بعد كل هذه المعاناة، تأتي لحظة التحرر عندما تتمكن ميا من شق فتحة في سقف الحاوية، فتحررنا جميعًا من هذه الظلمة، وهنا يتحول الفيلم من سرد بصري محصور إلى انفراجة بصرية تحمل في طياتها رمزية الولادة الجديدة، فتنطلق الكاميرة من داخل الحاوية، وكأنها عصفور يطير في سماء الحرية بعد فترة من الانحباس، هذه اللحظة تعبر عن الانتصار البشري على اليأس، وتعيد للمشاهدين الشعور بالأمل بعد مدة طويلة من العزلة والضيق. لكن سرعان ما تضيق المسألة مرة أخرى عندما تقترب الحاوية من الغرق، فتبحث ميا عن حل آخر، وتصنع من علب بلاستيكية كانت داخل الحاوية شبه قارب، فتضع صغيرتها على سطحه وتربط يدها بحبل متدلي منه، وفي لحظات الغرق، تضحي الأم بنفسها في سبيل منح الطفلة فرصة للعيش. فيلم «حاوية في عرض البحر» ليس مجرد قصة بقاء، بل هو نقلة سينمائية عميقة تحاكي مأساة الإنسان في أقسى صورها، ومعاناة الأم للمحافظة على صغيرها، إنه تجربة تتجلى فيها قصة صمود وبقاء تتجاوز مجرد البقاء على قيد الحياة، إنها شبه ملحمة تمزج بين الألم والأمل، اليأس والتضحية، لتقدم للمشاهد تجربة سينمائية تحفر عميقًا في الذاكرة.