قضية قديمة، ومعضلة متجددة تَستحدِث كل يوم ألمًا جديدًا وتبحث في كل لحظة عن أمل جديد أو حتى بصيص أمل احتلت مَشرقَه صانعة الأفلام المغربية فاطمة أكلاز متشبثة به ودافعة إياه كقابلة محترفة تعرف كيف تفسح المجال لخروج النور من خلال فيلمها آخر لغم The Last Mine.
سأحاول أن أتحاشى الحديث عن فيلمنا هذا مصنفًا إياه كفيلم وثائقي، وهو أيضًا ليس فيلما روائيًا أو تخييليًا، لكنه فقط فيلم سينمائي يستفيد من توثيق الحالات الحقيقية بقدر ما يوظف المشاهد التمثيلية والحوار والمؤثرات الصوتية والنصوص المكتوبة على الشاشة ليغذي جميع حواسنا ويخاطب في ذات الوقت إداراكنا. يغرس في نفس المتلقي وعيًا بقضية الألغام المتروكة بعد الحرب وخطرها الذي يطال المدنيين فيشوه أجسادهم ويدمر نفوسهم أو يقضي على حيواتهم ليضم أسماءهم إلى سلسلة طويلة من ضحايا ما بعد الحروب.
الألغام الأرضية المضادة للأفراد والمركبات قضية تطال العالم أجمع ونعاني منها بشكل خاص في بلداننا العربية من شرقها لغربها، على سبيل المثال؛ امتدت في اليمن منذ صراعات القبائل إلى الحروب المتكررة وصراعات السلطة أو النفوذ أو الحدود التي امتدت في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، ثم تجددت في العصر الحاضر بعد استيلاء الحوثيين على مخزن متفجرات يتبع شركة إسمنت كانت تستخدمها في الحفر، حولها هؤلاء إلى ألغام فخخوا بها الطرق والجبال فطمروا فيها الموت بدلا من تعميرها بالبناء.
في سوريا ترك الصراع مع العدو الإسرائيلي بصمته المميتة أيضًا، كما أحدثت الصراعات الداخلية أثرها بين الثوار والجيش النظامي والطامحين في السلطة والنفوذ من دواعش وغير دواعش. دائمًا يغادر الجنود ويتركون خلفهم حقول الخسة وجذور الدمار.كذلك في مصر ترك الاحتلال الإسرائيلي في سيناء أكثر من خمسة ملايين وخمسمائة ألف لغم، وفي الصحراء الغربية تركت قوات محوري الشر في الحرب العالمية الثانية (ولا أقول الحلفاء والأعداء كما تسميهم المراجع التاريخية التي كتبها المنتصرون) أكثر من سبعة عشر مليونًا وخمسمائة ألف لغم أرضي غير منفجر شكلت مصائد مميتة لسكان المناطق المحيطة، وتسببت في انعدام القدرة على استغلال 10% من الأراضي المصرية القابلة للزراعة، ويكفي أن نعرف أن إزالة مليون ومائتي ألف لغم استطاعت القوات المسلحة تفكيكهم بجهود ذاتية نتج عنها إتاحة بناء مدينة من أحدث المدن العصرية المصرية تحوي استثمارات بمليارات الدولارات هي مدينة العلمين الجديدة، ومساحات شاسعة من الساحل الشمالي لم يكن ممكنًا استغلالها بأي صورة من الصور منذ بضع سنوات.
في ليبيا أيضًا على الحدود مع مصر زُرعت آلاف الألغام إبان ما سمي بحرب الأيام الأربعة عام 1977م. وهي حرب عجيبة نشبت فجأة بين مصر (السادات) وليبيا (القذافي)، وكما بدأت أعلن فجأة وقف إطلاق النار وانتهى الأمر، وذهب المقاتلون للراحة في بيوتهم، لكن بالنسبة للمدنيين لم يكن الأمر كذلك؛ فقد كانوا على موعد مع موت متربص تركه المعسكران مزروعًا في الصحراء كامنًا لراعي غنم يسرح بخرافه ونعاجه أو طفل يلهو مع أصدقائه، والقضية ما تزال قائمة حتى اليوم. هذا طبعًا بخلاف الألغام التي تركها الصراع على السلطة بعد سقوط النظام الحاكم في 2011م.
في المغرب أيضًا هناك قضية ألغام مستفحلة منذ أيام الاحتلال الأسباني وهناك المزيد من الألغام زرعت بسبب صراعات أخرى على الحدود لم تحسم بعد.
ليت الألغام الأرضية معروف أماكنها أو أنها ثابتة فيها، لكنها تسرح وتسعى، تتسلل يومًا بعد يوم لتقترب إلى التجمعات السكنية نتيجة الأمطار وتحرك التربة والرياح. باختصار حتى لو رضي الناس بهذا الهمّ الذي زُرع في طريقهم وحاولوا التكيف معه؛ ما كان ليتركهم في حالهم بل يهاجمهم في عقر دارهم، وهو سبب آخر لكون هذا الخطر داهمًا ولا بد من التخلص منه نهائيًا رغم الكلفة الباهظة لذلك، فاللغم الذي قد يكلف إنتاجه وزراعته مبلغًا لا يتجاوز العشرة إلى الخمسة والسبعين دولارًا، تُكلف إزالته بين ثلاثمائة إلى ألف دولار، وبضرب هذا الرقم في عشرات ملايين الألغام المزروعة حولنا نكتشف أن الكلفة مرعبة لكنها ضرورية لأن بقاء الألغام يقابله أرواح تزهق وحيوات تدمر كل يوم.مما سبق يتضح لنا عالمية القضية التي تصدى لها فيلم (آخر لغم)، وهو ما جعل العديد من الأفلام العالمية الروائية والتسجيلية تتناوله، منها على سبيل المثال لا الحصر: فيلم (كاجاكي: القصة الحقيقية) Kajaki: The True Story، ويعرف أيضا ب Kilo Two Bravo، من إنتاج 2014، وهو فيلم دكيودراما بريطاني من إخراج بول كاتيس Paul Katis يعيد تقديم واقعة حقيقية معروفة بحادثة جسر كاجاكي وقعت لمجموعة من الجنود البريطانيين في مهمة عسكرية في أفغانستان عام 2006، وفيلم (أرض الألغام) Land of Mine أو Under Sandet من إنتاج 2015 وهو فيلم روائي دانماركي عن قصة حقيقية لاستغلال ألفي أسير ألماني في إزالة الألغام بعد الحرب، الفيلم من إخراج مارتن زاندفليت Martin Zandvliet. أيضًا هناك فيلم لغم Mine وهو فيلم درامي إنتاج مشترك بين إيطاليا والولايات المتحدة وإسبانيا عام 2016 ويتناول واقعة حدثت لاثنين من جنود المارينز في مكان غير محدد من شمال أفريقيا.
هذه أفلام طويلة ذات طابع أقرب للأفلام الروائية لأنها تتناول قصصًا حقيقية تعيد تمثيلها أو تستلهمها، وهناك عدد كبير أيضًا من الأفلام القصيرة ذات الطابع الأقرب إلى التسجيلي منها -على سبيل المثال أيضًا- الأفلام اليمنية: (الألغام، الموت المؤجل) من إنتاج قناة بلقيس الفضائية، وفيلم (الألغام مصائد الموت) من إنتاج مواطنة لحقوق الإنسان، وأحدثهم فيلم (عروس في حقل ألغام) للمخرجة اليمنية هناء صالح الذي يتناول في إطار تسجيلي التحول المفاجئ في حياة عروس كانت تستعد لحفل زفافها قبل أن ينفجر تحت قدميها لغم أرضي يحول حياتها من السعادة إلى الشقاء.من الجولان السوري المحتل نجد أيضًا فيلم (حقول الألغام) إنتاج قناة 24News Arabic عام 2017م. للمخرج والمراسل التليفزيوني مرعي مرعي، وهو مخرج عربي من عرب 48.
في مصر تم تناول الموضوع أكثر من مرة سواء في السينما الروائية أو التسجيلية آخرها الفيلم الوثائقي (الألغام) من إنتاج قناة الوثائقية المصرية الذي تم عرضه لأول مرة منذ أسابيع أواخر سبتمبر 2024م. وما يزال معروضًا على منصة Watchit المصرية، وربما هو أكثر الأفلام الوثائقية العربية عن هذا الموضوع حظًا من حيث ميزانية الإنتاج التي أتاحت له إعادة تصوير وقائع الحرب العالمية الثانية ومعركة العلمين الأولى والثانية التي كان نتيجتها غرس ألغام على مساحة شاسعة من صحراء مصر الغربية بواسطة القوات الألمانية والإيطالية والإنجليزية.
ليبيا أيضًا كان لها نصيب من هذه الأفلام من خلال مؤسسة (منبر المرأة الليبية من أجل السلام) والتي تصدت لإنتاج سلسلة من الأفلام حول موضوع الألغام خاصة التي فخخ بها الإرهابيون مناطق مأهولة بالسكان أو زرعوها بالقرب منها فتسبب كل يوم إصابات وتزهق أرواحًا جلها من الأطفال الذين لم يشاركوا في هذا الصراع ولو بالكلام. من هذه السلسلة الوثائقية ظهر فيلمان هما: (العدو الخفي) الذي عرض في سبتمبر 2017م. والفيلم الثاني هو: (معزوفة الموت.. قصة مدينة تحاصرها الألغام) الذي عرض في 10 نوفمبر 2017م. في مؤتمر بمدينة الحمامات بتونس.في آخر لغم تأخذنا فاطمة أكلاز إلى رحلة مع ضحايا الألغام الأرضية ومخلفات الحروب في الصحراء المغربية، رحلة وثائقية مفعمة بالدراما، تأثرًا -ربما- بالموضوع الذي يحتمل قضية إنسانية مؤججة بالمشاعر تحوي في مَتنِها تراجيديا الأزمة وصراع البقاء وأملًا في الأفق بعيدًا يحفز أبطال الواقع ويقود الأحداث ليضفر حبكة محكمة. التقطت صانعة الفيلم ذلك الخيط الدرامي بمهارة تنم عن خلفيتها الفنية كممثلة مسرح ومخرجة سينما حرصت أن تكون حاضرة على الشاشة بدور ما في أفلامها الروائية القصيرة الخمسة التي أخرجتهم من قبل ضمن سبعة أفلام في قائمة أعمالها كمخرجة سينمائية.
أقيم بناء الفيلم على خمسة أجزاء ربطت بينها المخرجة عن طريق عناوين مكتوبة تضم مقتطفات لكتّاب معروفين اختارتهم بعناية أو نصوصًا افتتاحية مقتضبة، وهي تقنية سينمائية قديمة جدًا من أيام السينما الصامتة، كانت توظف لتلافي عيب نقص الصوت في بدايات السينما، ووُظفت هنا لفتح الطريق أمام السرد البصري وقيادة المتلقي عبر دروبه واختزال تفاصيل عمر ممتد من صراع البشر مع الألغام ومع ظروف الحياة في الصحراء، الحياة الشاقة والممتعة في نفس الوقت.
يُفتتح السرد السينمائي بعبارة منسوبة للروائي الليبي العالمي إبراهيم الكوني، ذلك الأديب الذي عُرف بسبره أغوار الصحراء التي يعرفها جيدًا حتى يقال إنه أول من أحدث نقلة للرواية من كونها فنًا مدينيًا يكتب في المدن عن المدن وأهلِها، ويقرأ أيضًا في المدن؛ أخذه الكوني إلى الصحراء. تقول عبارته التي يُفتتح بها الفيلم:"في الصحراء لا يوجد شيء على الإطلاق، ويوجد كل شيء"
إنها عبارة تلخص المسافة بين نظرة الغرباء لهذه الكثبان الممتدة والمساحات الصفراء القاحلة اللانهائية التي تبدو غير حية ولم تشهد حياة ولا ينتظر منها إرهاص بأي صورة من صور الحياة، لكنها في نفس الوقت عند الخبير بدروبها وشعاب جبالها حياة كاملة متكاملة، كل ذرة رمل فيها طيَّرها الهواء لتطمس أثر قدم مرت هنا تحمل ذاكرة، تاريخًا وقصصًا لأناس وأنس وأمال وألم أحيانًا كثيرة.
الفصل الأول من الفيلم يسبق التترات وهو ملخص تشويقي يعرض مقتطفات من القصص التي ترد في المتن بعد ذلك، ومشهدًا تمثيليًا توظفه المخرجة لتربط مفاصل السرد، فتقسمه لأجزاء تعرض بعضًا منه كل حين بين فصول الفيلم، وهو مشهد يعيد تمثيل قصة أحد الأبطال الذي اضطرته ظروف قصف جبهة البوليساريو لمدينته (السمارة) للمغادرة إلى مخيم في الصحراء، ثم يترك خيمته متجها بعيدًا عن الأنظار لقضاء حاجته فينفجر فيه لغم وينتهي به الحال، بعد محاولات متعثرة لإنقاذه، بفقد إحدى ساقيه وإحدى عينيه، هذا البطل يتحول بعد حين لأحد الناشطين في مجال التوعية عن خطر الألغام والباحثين عن حقوق المعاقين.
نشاهد أول لقطة من هذا المشهد في أول الفيلم، الشاب يتمشى في الصحراء، لقطة عابرة لا نفهم معناها إلا بعد أن تكتمل خيوط القصة.
جزء آخر من المشهد التمثيلي الذي أشرنا إليه يأتي مع ظهور عنوان الفيلم الذي يفصل بين لقطة أحادية اللون (أبيض وأسود مع مسحة من السيبيا) للشاب يتقدم في الصحراء التي تنحدر به حتى يختفي عن العيون، ثم لقطة ملونة وإن كانت ألوان الصحراء ذات التشبع المحدود تجعلنا بالكاد نحس بهذا التغير اللوني، فقط في الحدود التي ندرك معها أن الزمن تغير، فنرى العائد من عمق الصحراء في الزمن الحاضر وقد صار يمشي على عكازين، وهو الشيخ أحمد بن ليمان أحد البطلين الذين يقودان السرد ويغذونه بأبعاد درامية (تخييلية) من خلال قصة صداقتهما الحقيقية على أرض الواقع.
الطريقة التي تم بها إخراج المشهد السابق تحيلنا إلى تناصٍ مع مشهد متطابق (تقريبًا) من فيلم (حقول الألغام) للمخرج مرعي مرعي الذي أشرنا إليه سلفًا مع اختلافات بسيطة حيث يدور في صحراء الجولان ويذهب مجموعة من الأصدقاء ليتواروا عند منحدر رملي، ثم يعود أحدهم فقط من العمق على عكازين. هذه الإحالة نموذج فقط وثمة إحالات عديدة (تعدد التناص) تشير إلى مدى اطلاع المخرجة ودراستها وهضمها للأعمال التي سبقتها لتناول الموضوع ثم الاستفادة منها في تقديم فيلم مؤثر يمثل سجلًا يؤرخ اللحظة الإبداعية التي أنتج فيها.
"الناس لا شيء بدون القصص"
بهذه العبارة ينطلق السرد في عرض مجموعة من اللقاءات يروي من خلالها الأبطال قصصهم مع الألغام، اختلافات ليست كبيرة، كلها تنتهي بمأساة لأصحابها، شاب فقد يده وزوجة فقدت زوجها وأحد ابنيها، وقصص أخرى منها قصة صداقة بين رجلين من مصابي الألغام أحدهما ينتمي إلى مدينة (بوجِعد) في الشمال، من قلب المغرب هو (الخميس حمادي) أو (بوستة) والآخر ينتمي إلى مدينة السمارة الصحراوية وهو (الشيخ أحمد بن ليمان). تلك تبدو إشارة فنية مضمرة بذكاء إلى وحدة التراب المغربي ضمنتها صانعة الفيلم بين السطور دون أن تزعق بها أو تجعلها في قالب دعائي فج لا يعيش في عقل وقلب المتلقي. قصة الصداقة هذه تعطى حيزًا كبيرًا من السرد. تتخلل الفيلم حتى تصل بنا إلى آخره فيختتم الفيلم بهما في جلسة سمر وشرب الأتاي المغربي الشهير على أرض الصحراء التي تبدو آمنة رغم أنها ما يزال بها لغم نرجو كما ترجو صانعة الفيلم والمشاركون فيه أن يكون اللغم الأخير.
"إن سر الوجود الإنساني لا يكمن في الحياة فحسب، بل في معرفة ما يجب أن نعيش من أجله."
بهذه الجملة التي كتبها الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية الإخوة كارامازوف، يفتتح فصل آخر من الفيلم، فصل أكثر حيوية يغلب عليه التصوير بالكاميرا المحمولة، يمكن اعتباره أكثر فصول الفيلم وثائقية. نرى خلاله تجربة (جمعية إسراء لدعم ومساندة ضحايا الألغام) والتي ينخرط في عضويتها بطلا الفيلم حيث يتقدم دورهما في الفيلم من مجرد الحكي إلى الفعل، فنراهما ضمن أنشطة الجمعية التوعوية والمساندة لضحايا الألغام، ومن خلال هذا الفصل نقابل المزيد من ضحايا الألغام ونتعرف على قصص أكثر لمأساة هذا الشر المتربص بالمدنيين.
بعد ذلك نجد فصلا تكتمل فيه حكاية القصص التي يرويها الفيلم لكنها لا تنتهي. يبدأ الفصل بمشهد الشاب الذي يتمشى في عمق الصحراء وينفجر فيه اللغم، المشهد هذه المرة يأتي كاملا، وتتواصل حكايات ضحايا الألغام (أبطال القصة). يبدو أن هذا الفصل ينهي علاقة الفيلم بالماضي ليقودنا إلى الفصل الخامس والأخير الذي يفتتح بنص مقتبس من رواية الأديب إبراهيم الكوني (التبر)، تقول العبارة: "التعويذة الأسطورية لأهل الصحراء هي الصبر"
هذا الفصل الأخير من الفيلم نشاهد خلاله هؤلاء الناس، سكان الصحراء يمارسون طقوس الصبر اليومي، والصديقان يتسامران في سهرة بقلب الصحراء يتمتعان خلالها بأمان محتمل، فقد تكون الألغام انتهى وجودها كما يذكر عنوان الفيلم (اللغم الأخير) ليته يكون أخيرًا ليغني الجميع مع (بوستة) وصديقه (بن ليمان) في عودتهما إلى المدينة ليلا معلنين رضاهما بالمقسوم وصبرهما على البلاء وسعادتهما الممكنة بالمتاح.