من أهم مميزات فعالية بانوراما الفيلم الأوروبي أنها تمنح الجمهور فرصة عظيمة لمشاهدة مجموعة مميزة من الأفلام السينمائية الأوربية الطويلة والقصيرة، والتي لا تتوفر فرص مشاهدتها في أغلب الأوقات إلا من خلال المهرجانات السينمائية أو لحين عرضها بعد ذلك على القنوات التلفزيونية ومنصات العرض الرقيمة المدفوعة أو المجانية. من أبرز الأفلام التي حظيتُ بمشاهدتها مؤخرا في هذه الفعالية هو فيلم "بيرد"، والذي لم يخيب ظني مطلقًا كما توقعته بأن يكون فيلما جيدا. فيلم "بيرد" صدر في عام 2024، من إنتاج بريطاني- أمريكي- ألماني- فرنسي مشترك. ينتمي لفئة الدراما وعُرض لأول مرة في 16 مايو 2024 ضمن فعاليات مهرجان كان السينمائي بفرنسا، وتوالت بعد ذلك مشاركاته في عدة مهرجانات سينمائية دولية مرموقة، وهو من تأليف وإخراج أندريا أرنولد، ومن بطولة: نيكيا آدامز، باري كيوجان، فرانز روجويسكي، جايسون بودا، جاسمين جوبسون، فرانكي بوكس وغيرهم.
تدور أحداث الفيلم حول الفتاة المراهقة (بيلي) التي تعيش برفقة أخيها (هانتر) ووالدهما (باج) في منزل صغير في شمال مقاطعة كينت، وبينما ينشغل الأب ويعجز عن توفير الوقت لهما، تبحث (بيلي) عن الاهتمام والمغامرة بعيدا عن المنزل؛ فيتقاطع طريقها مع رجل غريب وغامض يدعى (بيرد) فتتغير حياتها تمامًا.
نجح الفيلم في تقديم مشكلة التفكك الأسري بمعالجة مختلفة وذكية للغاية، رافعا شعار: "الأسرة أولا وقبل أي شيء"، فنتابع مع الشخصية الرئيسية (بيلي) مأساة العيش وسط عائلة مفككة، حيث تعيش والدتها مع إخوتها غير الأشقاء في منزل آخر بعيدا عنها، وتعيش هي مع أخيها غير الشقيق (هانتر) مع والدهما (باج) الذي يُهمل رعايتهما ويخطط للزواج من امرأة أخرى بينما يحاول تحسين وضعه المادي من خلال بيع المواد المخدرة، وفي وسط هذه الظروف، تظهر علامات البلوغ على (بيلي) وتبحث عن الرعاية والاهتمام، مما يخلق منها شخصية مضطربة لا تستطيع التكيف مع بيئها أو التعامل مع الشخصيات المحيطة بها، فتقضي معظم وقتها بين التصوير بهاتفها المحمول أو الانزواء لوحدها في الأماكن البعيدة الخالية التي تكتشفها بين الحين والآخر أثناء مغامراتها الفردية، وأحيانًا تُحاول مُجاراة أخيها (هانتر) والتسكع معه ورفاقه الذين يُكوِّنون عصابة من الشباب المراهقين ويفتعلون المشاكل والشجارات ويرتكبون العديد من التصرفات الغير قانونية. وشعورها بعدم الانتماء والتهميش يُقربها من الشاب المضطرب (بيرد) الذي تتعرف عليه عن طريق الصدفة وتحاول مساعدته على إيجاد أسرته التي فقدها منذ أن كان طفلاً، فتجد (بيلي) رابطا ما يقربها مع (بيرد) وتشعر معه بألفة لم تعرفها مُطلقًا من قبل، ويحاول كل منهما مساعدة الآخر لجعل حياته مستقرة، ولتقوية علاقة كل منهما بأسرته.أيضا سلط الفيلم الضوء على شخصيات ثانوية أخرى تضررت من مشكلة التفكك الأسري، منهم إخوة (بيلي) الثلاث الصغار الذين يعيشون مع والدتهم متعددة العلاقات والمهملة تمامًا لمهامها كأم وربة منزل. الشخصية الأخرى هو أخيها المراهق الشاب (هانتر) الذي يعيش أيضا نفس الحياة المضطربة، وتدفعه تصرفاته الطائشة والغير مسؤولة لارتكاب جرائم مع رفاقه وللدخول في علاقة عاطفية مع فتاة في نفس عمره وينتج عنها حمل غير مرغوب فيه، وكل هذا بعيدا عن أنظار أبيهما ودون علمه.
كل هذه الأحداث لخصت لنا باختصار أن الأخطاء التي يرتكبها الآباء يدفع ثمنها الأبناء بلا شك، وأن للأسرة والوالدين دور كبير في سعادة أبناءهم أو تعاستهم.أيضًا كان لاختيار اسم الفيلم دلالة مميزة ومعنى عميق جدا، فغير أن كلمة (بيرد) هي اسم إحدى شخصيات الفيلم، فهي في اللغة الإنجليزية تعني "طائر"، فنرى طوال أحداث الفيلم ولع (بيلي) بتصوير الطيور وهي تحلق بحرية في السماء، حالمة بأن تُحلق بحرية مثلهم، وتتخيل بعد ذلك (بيرد) نفسه يتجسد أمامها على هيئة طائر يضمها ويحميها بين جناحيه، أو ليطير بها إلى بر الأمان إذا لزم الأمر.
تم تصوير الفيلم كاملًا بأسلوب الكاميرا المحمولة، والتي كانت أداة جيدة لنقل الحياة المضطربة التي تعيشها شخصيات الفيلم، ولتضع المُشاهد في مكان قريب منهم وهي تتبع تحركاتهم في كل مكان، كما ساهمت بشكل كبير جدا في شد وتيرة إيقاع الفيلم ليُصبح حيويا ونابضا بالحياة بمساعدة الإضاءة الطبيعية في معظم مواقع التصوير، وهذا بجانب المونتاج المميز والموسيقى التصويرية للفيلم، وبالطبع بالاشتراك مع الأداء التمثيلي البسيط والتلقائي للممثلين؛ تحت رؤية وتوجيهات مؤلفة ومخرجة العمل التي نتج عنها أحد أهم وأفضل أفلام السنة.