«أشعر ان الحياة تنقسم الى نوعين: ما هو مأسوى وما هو بائس، المأسوى مثل الحالات المرضية المميتة والعمى والشلل، اما البائس فهو باقى من ليس كذلك، لذا عليكى ان تكونى شاكرة لأنك من البائسين، فكونك بائسة يعنى انك محظوظة» هكذا كانت ترى شخصية «الفى» الذى كتبها واداها وودى آلان بتحفته السبعيناتية Annie Hall، والتى تعبر عن وجهة نظر آلان نفسه فى احد اكثر افلامه ذاتية، وهى وجهة النظر التى اظنه قد ظل مخلصاً لها على مدى بعيد من تاريخه الفنى على كونها اقرب نقطة تلاقى تجمع بين الواقع والتشاؤم والتفاؤل، ولكنى بعد مشاهدة فيلمه الاخير وبعد مرور كل تلك السنوات على «انى هول»، لم اعد متأكد ان كان لازال يؤمن بها ام ان شخصية «جاسمين» قد هزت قناعته بها، بصفتها واحدة من اكثر الشخصيات تركيباً للبؤس فى تاريخه الحكائى الطويل، ليبدو ان هنالك استثنائات فى البؤس لا تتطلب الشعور بالشكر والامتنان، بل تصل ببؤسها للنوع المأسوى.
وودى آلان عضو تاريخى مخلص للمدرسة العبثية، احياناً تميل عبثيته للوجودية الاكثر تفاؤلاً ومعنى، وذلك ما وضح فى افلام مثل Hannah & Her Sisters و Midnight in Paris، واحيانا تميل عبثيته للعدمية الاكثر تشاؤماً، وهذا ما وضح فى افلام مثل Stardust Memories و Crimes & Misdemeanors، وفى رأيى ان فيلم اليوم ينضم للنوع الاخير.
يقول آلان انه استلهم فكرته من تجربة فعلية مرت بها احدى جاراته الثريات بمدينة نيويورك قبل سنوات قليلة واثناء الازمة الاقتصادية العالمية، حيث أفلست تلك الجارة واتجهت للقيام باعمال شاقة ومهينة لطبيعتها البرجوازية لتكسب معيشتها. هذا بجانب انه استلهم -ربما عن طريق اللا وعى- الادوات الرئيسية لقصة مسرحية تينيسى ويليامز الشهيرة «عربة اسمها الرغبة»، واعنى الادوات فقط وليس الفكرة، فالاختلاف الجوهرى بين فكرة المسرحية وفكرة الفيلم سيبدو واضحاً اثناء مشاهدة الفيلم.
يبدأ الفيلم بتعريفنا على السطح من شخصية «جاسمين» التى تقوم بدورها الممثلة كيت بلانشيت، وهى سيدة المجتمع النيويوركى الثرية المرفهة، هذا قبل ان تتعرض لكبوة بعد سجن زوجها «هال» فى قضية فساد مالى لتفقد كل ثروتها ومركزها الاجتماعى ويتخلى عنها الجميع، حتى لا يعد امامها سوى الاتجاه لسان فرانسيسكو حيث تعيش أختها بالتبنى «جينجر» التى تقوم بدورها سالى هوكينز، ومن هنا يبدأ الفيلم، او لنقل الفيلمين، فمنذ ذلك المنعطف ينقسم الفيلم الى فيلمين، جزء يدور فى الزمن الفعلى والآخر فى الماضى عن طريق الفلاش باك، ويسيران معاً بشكل متوازى، لنتعرف اكثر على ماضى «جاسمين» الرغد الذى يدور بنيويورك، ثم نربطه ونقارنه بحاضرها البائس الذى يدور بسان فرانسيسكو. منذ بداية الفيلم يضعنا آلان امام تفاصيل صغيرة عن «جاسمين» تجعلنا نتخطى ما تظهره الشخصية لنغوص فى اعماقعها، اشياء مثل حديثها المتواصل عن نفسها وحياتها فى الطائرة فى اول مشاهد الفيلم، والاشارة لنوع حقيبتها الفاخر بصوت محدث فى المطار، وشراء تذكرة من نوع الدرجة الاولى باهظ الثمن نسبة الى سيدة مفلسة، واختيار اسم شهرة ذو وجاهة كـ «جاسمين» عوضاً عن اسم مولدها وهو «جانيت»، وصولاً للبقشيش بالغ السخاء الذى تمنحه لسائق السيارة الاجرة، كل هذه التفاصيل تجعلنا نفهم اننا امام شخصية نرجسية تتمحور اهتماماتها حول ذاتها ونظرة الاخرين لها، وتواجه خللها النفسى الناتج عن صدمتها الاجتماعية عن طريق الانكار، واحيانا عن طريق الحط من شأن الآخرين وعلى رأسهم أختها وحبيب أختها «شيلى» الذى يقوم بدوره بوبى كانافالى. حسنا، هى لا تريد الاعتراف بحقيقة الامر، انها الان مجرد خاسرة تعيش عالة على اختها العاملة باحد الاسواق التجارية وتعول طفلين اخرين من زوجها السابق الذى احتال زوج «جاسمين» على امواله وتسبب فى افساد حياته وحياة «جينجر».
من اهم تفاصيل رسم الشخصيات هو جعل «جينجر» و «جاسمين» اختان بالتبنى،اختلاف اصولهم البيولوجية، بالاضافة للاختلاف الجغرافى بين زمنين الفيلم من الشاطىء الشرقى الى الشاطىء الغربى للولايات، كان ذلك نقطة انطلاق لاثراء ما وراء القصة وعقد مقارنات بينهم اشبه بالمقارنات التى فرضها آلان بفيلمه الاسبق Vicky Christina Barcelona، وان كان من السهل الوقوع فى غرام شخصية «جينجر» من المشهد الاول لها رغم انها ليست الشخصية المثالية تماما، اللا انه لا شك ان التعاطف مع «جاسمين» فى طريقه ليحدث ايضا لا محالة، لقد غلب نوع من الواقعية على رسم الشخصيات يجعلك تلتمس لهم الاعذار.
قد يشعر البعض بأن اسلوب الفلاش باك المتداخل غير الممهد فى هذا الفيلم ادى الى بعض الالبتاس، وأثق تماماً ان هؤلاء لم يشاهدوا Annie Hall، الذى استخدم فيه آلان نفس الاسلوب، وهو اسلوب يتميز به آلان ويضيف اليه، والاهم انه يصفع اولائك الذين يجلسون فى قاعات السينما وبحوزتهم عبوات "الفشار" الضخمة التى تسليهم اثناء القيام بعملية من المفترض انها مسلية بالاساس! انها صفعة ليتركوا ذلك الهراء ويعطون ما يشاهدون ما يستحقه من تركيز؛ كى لا يحدث ذلك النوع من الالتباس المزعوم.
العظماء كثيرون، ولكن العباقرة يعدون على اصابع اليدين، وآلان الذى هو على مشارف عامه الـ 80 هو واحد من اولائك العباقرة، وبالحديث عن افلام العباقرة لا يمكننا القول بأن ذلك الفيلم سىء والاخر جيد، بل هى تجربة اخراجية تقيّم بعموم رؤيتها وتنوّع اداواتها، واعلم انه ليس من الدقيق محاسبتهم بالقطعة، هذا لا يمنع انه يمكننا تفضيل احد افلامهم على الآخر، لذا فاعتقد ان هذا الفيلم قد حجز لنفسه مكان فى قائمة افضل 10 افلام قدمها آلان فى تاريخه، رغم أنه اقل افلام آلان ذاتية من حيث الفكر، اللا انه استطاع الحفاظ على اسلوبه السينمائى المميز وروحه الساخرة وشخصياته المفعمة بالحياة، وبالطبع حافظ على التواصل الروحى التاريخى مع جمهوره عبر عشقه لموسيقى الجاز التى اعتادت ان تملأ افلامه بالرائحة النيويوركية الكلاسيكية المثيرة، خاصة وان عنوان الفيلم مستوحى من احدى اغانى الجاز الشهيرة. حسناً، ساوجز واقول ان وودى آلان مازال ذلك البروكلينى النحيل الذى ترك فيلمه يغتصب الاوسكارات من اسطورة «حرب النجوم» فى شتاء 1978، وذهب لاحدى حانات مانهاتن ليعزف موسيقته المعشوقة، غير عابه بما يحدثه فيلمه على الشاطىء الغربى من القارة.
كنت قد ذكرت فى مراجعة سابقة عن فيلم «حياة اديل» اننى انتظر مشاهدة Blue Jasmine، لأحكم ان كانت الفرنسية «اديل اكساركوبولس» هى افضل ممثلة فى العام الماضى ام ان «كيت بلانشيت» قادرة على تعديل ذلك الرأى المبدئى، والآن بعد ان شاهدته، اندب حظك العاثر يا صغيرتى «اديل»!، ادائك فى رأيى يظل من اهم ظواهر العام الماضى، ولكن اعذرينى فاداء السيدة «بلانسيت» تخطى اى مقارنة يمكن عقدها، انه ليس ذلك الاداء المبهر الذى يسرق منالمتفرج شهقة اعجاب لبراعته وحسب، بل هو الاداء الذى يجعل المتفرج يخشى ان يصاب الممثل الذى امامه بمكروه او ان يفقد وعيه من شدة انفعالاته وقوة تقمصه التى يصعب وصفها اوها بأى مقياس قوة متعارف عليه، جائزة الاوسكار ستذهب لـ «كيت بلانشيت»، هذه الآن حقيقة وليست تنبؤ،
عنوان النقد | اسم المستخدم | هل النقد مفيد؟ | تاريخ النشر |
---|---|---|---|
النقطة الفاصلة بين التشاؤم والتفاؤل | دعاء أبو الضياء | 0/0 | 19 يناير 2014 |
«جاسمين الحزينة»: آخر لوحات آلان. | Amgad Gamal | 0/0 | 25 يناير 2014 |