عندما قدم المخرج علي عبدالخالق فيلمه "شادر السمك" في الثمانينات، لم يكن مجرد عمل درامي اجتماعي عابر، بل كان امتدادًا واضحًا لتيار الواقعية السينمائية الذي أرساه من قبل المخرج الكبير صلاح أبو سيف، لا سيما في فيلمه الشهير "الفتوة" (1957). لكن عبدالخالق لم يكن يقلد بقدر ما كان يُطور، ويُضيف لمسته الخاصة التي تنتمي لزمنه ومجتمعه، معتمدًا على أدوات سينمائية أكثر حداثة، وأداء تمثيلي فذ من النجم أحمد زكي. ويُحسب لـ علي عبدالخالق هنا أنه لم يقع في فخ المباشرة أو الخطابية الزائدة، التي سقط فيها كثير من مخرجي الواقعية. بل قدم الواقع كما هو، دون تزييف، دون تهويل، وفي الوقت نفسه دون افتعال. شخصياته من لحم ودم، تعيش وسط صراع اجتماعي واضح، لكن دون أن تتحول إلى أدوات لنقل أفكار مسبقة. وما يُميز عبدالخالق هنا ليس فقط رؤيته الواقعية، بل أيضًا التكنيك الإخراجي الواضح والسيطرة المحكمة على أدواته. تحركت الكاميرا في الفيلم بنشاط وسرعة محسوبة، تتماشى مع إيقاع السوق والشارع والحوارات اليومية، وتُعزز من التوتر الدرامي الذي تتطلبه القصة. وعبدالخالق هنا يُثبت أنه ليس فقط راويًا جيدًا، بل صانع مشاهد بارع يعرف متى يُسرع إيقاعه ومتى يُبطئه، وكيف يجعل من العدسة شريكًا حقيقيًا في الحكاية، وليس مجرد ناقل للأحداث. وتمامًا كما كان يفعل صلاح أبو سيف، عبدالخالق كان يرى في الواقعية قوة درامية، وليست مجرد خلفية سياسية أو اجتماعية. وهذا ما جعل "شادر السمك" فيلمًا لا يُنسى، يُعيد إلينا مذاق الواقعية المصرية الأصيلة، ولكن بطابع جديد يناسب زمنه. وواحدة من أبرز نقاط التميز في "شادر السمك" كانت البيئة البصرية التي خلقها الفيلم. فقد نجح مهندس الديكور نهاد بهجت في بناء عالم واقعي إلى حد كبير، لدرجة أن المشاهد يشعر وكأنه يتجول بنفسه في أزقة سوق السمك الشعبي. الأرض المبتلة، الروائح التي يمكن تخيلها، البسطات المتهالكة، والحوار الدائر بين الباعة والزبائن – كل شيء يعكس واقعية مذهلة لم تكن مجرد خلفية، بل كانت جزءًا حيًا من الحكاية. هذا الاهتمام بالتفاصيل الحية، يُذكرنا بنفس الروح التي بنى بها صلاح أبو سيف عالم "الفتوة" داخل سوق الخضار. في الحالتين، السوق ليس مجرد مكان للأحداث، بل هو رمز لصراع القوة، والنجاح، والسيطرة في مجتمع يتسم بالعنف الاجتماعي والطبقي. وإذا تحدثنا عن الأداء التمثيلي فالمقارنة بين فريد شوقي في "الفتوة" وأحمد زكي في "شادر السمك" تبدو مشروعة بل وضرورية، ليس فقط لأن الفيلمين يشتركان في السياق المكاني والطبقي، ولكن لأن كليهما جسدا شخصية الرجل الشعبي المكافح، الذي يصطدم بجدار الظلم والفساد في السوق. فريد شوقي قدم في "الفتوة" شخصية "هريدي عمران" بصلابة وقوة جسدية تُجسد زمنه. أما أحمد زكي، فقد منحنا شخصية أكثر تركيبًا نفسيًا، فيها انكسار داخلي وشغف حقيقي بالعدالة، لكن بطريقة معاصرة تتماشى مع تحولات المجتمع في الثمانينات. زكي لم يكن مجرد بطل شعبي، بل كان بطلًا إنسانيًا، يُعاني ويتألم ويثور بصمت أحيانًا، وبانفجار عاطفي أحيانًا أخرى. وبهذا، أثبت أحمد زكي أنه الوريث الشرعي لجيل التمثيل الثقيل، مع حساسية فنية فائقة جعلته يختلف، لا يقل، بل يُكمل المسار. في النهاية "شادر السمك" ليس فقط تحية ذكية لفيلم "الفتوة"، بل هو دليل حي على أن السينما الواقعية لا تموت، بل تتجدد بأدوات مختلفة، وأجيال مختلفة. فبين فريد شوقي وأحمد زكي، وبين صلاح أبو سيف وعلي عبدالخالق، هناك جسر فني متين، بنته الموهبة والصدق الفني، وجعل من الواقع مادة خامًا لصناعة سينما خالدة.
| عنوان النقد | اسم المستخدم | هل النقد مفيد؟ | تاريخ النشر |
|---|---|---|---|
| شادر السمك... دليل حي على أن السينما الواقعية لا تموت |
|
0/0 | 23 سبتمبر 2025 |