سيرة الغربة والانتصار في تجربة عاطف سالم الجريئة

يُعد فيلم "النمر الأسود" أحد أبرز أفلام الثمانينيات التي تناولت فكرة الكفاح والنجاح الشخصي خارج الوطن، وهو مستوحى من قصة حقيقية كتبها الصحفي أحمد أبو الفتح وهي قصته الوحيدة التي تحولت إلى عمل سينمائي. القصة تدور حول محمد حسن، الشاب المصري البسيط الذي سافر إلى ألمانيا بحثًا عن فرصة أفضل في الحياة، فواجه قسوة الغربة والعنصرية والاغتراب، لكنه حول المستحيل إلى معجزة، وأثبت نفسه بجهده وإصراره حتى صار نموذجًا للنجاح. وهنا يظهر الدور المحوري للسيناريست بشير الديك، أحد "الجنود المجهولين" في تحويل القصة الصحفية إلى سيناريو نابض بالحياة، الديك لم يكتفي بنقل الأحداث، بل صاغها بلغة سينمائية ثرية بالحوار الإنساني، وأضفى على الشخصية عمقًا نفسيًا يجعل المشاهد يشعر أن محمد حسن يعيش داخله. وقد اختار عاطف سالم أن يصور الفيلم في إحدى الدول الأوروبية (ألمانيا)، وهو قرار جريء في ذلك الوقت، نظرًا للتكلفة والمخاطر الإنتاجية، لكنه أراد أن يُجسد واقعية الغربة بكل تفاصيلها القاسية من المناخ، اللغة، العزلة، والتمييز العنصري، ليشعر المشاهد أنه يعيش التجربة مع البطل. من الناحية الإخراجية، حافظ سالم على إيقاع مشوق رغم طول الفيلم الذي اقترب من الساعتين، لكنه بذكاء المخرج المحترف جعل الزمن يمر سريعًا، وكأن المشاهد لم يمضي سوى ساعة واحدة أمام الشاشة. وقد استخدم الإضاءة الباردة والتصوير الخارجي ليعكس برودة المكان وغربة الإنسان، وهو ما جعل المشاهد يعيش الاغتراب بصريًا قبل أن يشعر به دراميًا. ويُعتبر أداء أحمد زكي في هذا الفيلم أحد العلامات البارزة في مسيرته الفنية، فبعد "المدمن" و"العوامة 70"، جاء "النمر الأسود" ليؤكد قدرته على الاندماج التام في الشخصية، زكي لم يؤدي دور محمد حسن فحسب، بل عاشه بكل تفاصيله، في التعب، والانكسار، والكرامة، والنهوض من جديد. ولذلك، استحق عن جدارة أن يُلقب بعد هذا الفيلم بـ "النمر الأسود"، وهو لقب ارتبط به جماهيريًا حتى بعد رحيله، وقد نجح زكي في أن يجعل كل مشاهد يتعاطف معه ويشعر أنه صديقه أو شقيقه، فكان نموذجًا حيًا للمصري المكافح الذي لا يعرف اليأس. وقدم المخرج عاطف سالم من خلال الفيلم الوجه الجديد وفاء عبدالسلام في أول أدوارها السينمائية، ومنحها نفس اسمه الحقيقي ليُطلق عليها وفاء سالم، وقد أدت وفاء دور الفتاة الألمانية التي تتعرف على محمد حسن وتؤمن بقدراته، فكانت رمزًا للأمل والحب الإنساني وسط مجتمع قاسي. نجحت وفاء في أن تترك انطباعًا قويًا ببراءتها وتلقائيتها، وقدمها عاطف سالم بذكاء كممثلة شابة قادرة على جذب الجمهور دون مبالغة أو تصنع. وهنا اعتمد عاطف سالم على الأغاني والموسيقى التصويرية كعنصر سردي مكمل، حيث ساهمت الأغاني في تعزيز المشاعر، وربط المشاهد بمسيرة الكفاح التي يخوضها البطل، وكانت الموسيقى في الفيلم ذات طابع ملهم حماسي، تعبر عن رحلة الصراع الداخلي بين الأمل واليأس، مما جعلها جزءًا من الحكاية لا مجرد خلفية صوتية. "النمر الأسود" ليس مجرد فيلم عن النجاح، بل هو صرخة في وجه الغربة والتمييز، ودعوة إلى الإيمان بالنفس، وقد جمع الفيلم بين الدراما الواقعية والبعد الإنساني، بين الحلم الفردي والكرامة الوطنية. كما يُعتبر من الأعمال التي أبرزت ملامح مرحلة الثمانينيات في السينما المصرية، حيث كان المزج بين الواقعية الاجتماعية والطموح الفردي سمة مميزة لتلك الفترة.

نقد آخر لفيلم النمر الأسود

عنوان النقد اسم المستخدم هل النقد مفيد؟ تاريخ النشر
سيرة الغربة والانتصار في تجربة عاطف سالم الجريئة دعاء أبو الضياء دعاء أبو الضياء 0/0 29 اكتوبر 2025