في زمن كانت فيه السينما المصرية بتحاول تمد إيديها للواقع، وتتكلم عن قضايا اجتماعية واقتصادية وسياسية بجرأة، ييجي فيلم زي **"عنبر الموت"** ويحاول يدخل سكة مختلفة: الفساد المؤسسي، وبيع صحة الناس في مقابل مكاسب تجارية، وشحنات لبن فاسدة بتدخل البلد تحت عين الحكومة وصمتها. موضوع كان ممكن جدا يولع على الشاشة… بس للأسف، اللي حصل هو إن النار ولعت في الورق… وانطفت في التنفيذ. من أول دقيقة، الفيلم بيقدم نفسه على إنه فيلم **"فضيحة سياسية"**، بيتكلم عن مسؤولين بيبعوا شرفهم المهني، وعن رجال أعمال بيشحنوا...اقرأ المزيد الموت في عبوات لبن للأطفال، فكرة تقيلة، خطيرة، ومحتاجة سيناريو زي المشرط، يقطع بدقة، ويحفر جوه الشخصيات ويخلي الصراع حقيقي. لكن اللي حصل؟ إن الحبكة كانت بتتزحلق من تحت رجلك كل شوية. بالرغم من أن القصة والسيناريو والحوار لمؤلفين كبيرين كبر السنين (يوسف إدريس، ومصطفى محرم) إلا أن الفيلم بيدخل في خطوط درامية كتير، لكن من غير ما يمسك في أي خط لحد النهاية. في لحظة بتحس إنك بتتفرج على فيلم "تحقيقات صحفية"، بعدها فجأة تدخل في ميلودراما عائلية، وبعدين مشهد مطاردة، وبعدين رومانسية باهتة… مفيش بناء حقيقي للحدث، ومفيش تدرج درامي يخليك تصدق إن اللي بيحصل ممكن يحصل فعلا. نور الشريف كالعادة بيحاول يشيل الفيلم على كتافه، بيقدم شخصية ضابط شريف اللي بيدفع تمن مواقفه، واللي بيحاول يكشف الحقيقة وسط شبكة من الأكاذيب، بس رغم إخلاص نور في الأداء، مافيش ممثل يقدر يخلق عمق من حوار كله إكليشيهات. الجمل كلها محفوظة: "لو سكتنا النهاردة، هنموت بكرة!"، "البلد دي مش هتتظبط غير لما كل فاسد يتحاسب!" الكلام شكله كبير… لكن مافيش إحساس حقيقي تحت الكلمات، وهنا هتلاقي السيناريو بيكتب شعارات، مش مشاعر. حتى العلاقات بين الشخصيات كانت سطحية جدا. البطل بيساعد مجرم يسافر برا… ليه؟ غريبة، المسؤول فاسد… طب إزاي بيفكر؟ مش باين. رجل الأعمال بيهرب لبن مسرطن… طب فين العقدة النفسية؟ فين الصراع الأخلاقي؟ مافيش حاجة. أشرف فهمي مخرج عنده باع طويل، لكن هنا اشتغل بمنطق التلفزيون التعليمي: كاميرا ثابتة، كادرات محافظة، مشاهد تحقيق ومواجهات كلها شبه بعض، وإيقاع الفيلم كان شبه رتيب، بيزيد فجأة في مشهد مطاردة أو مشادة، وبيرجع يبطأ تاني، من غير توازن بصري أو سمعي، حتى المشاهد اللي كان المفروض توجع… عدت كأنك بتقرأ خبر في جريدة. الفيلم عنده فكرة… بس مش عنده خيال، ودي مش جريمة الفيلم، دي مأساته الحقيقية، لأن "عنبر الموت" لو بصينا له كنص خام، هنلاقي إنه بيطرح سؤال مهم جدًا: "لما السلطة تفسد، مين هيدافع عن صحة الناس؟" سؤال محتاج فيلم عميق، جرئ، صادق. لكن اللي حصل هو إن الفيلم اشتغل زي مقال رأي، مش كدراما سينمائية.... اكتفى بالشجب، ووصف الفساد، من غير ما يدخل في أعماقه أو يحكيه من جوه الناس اللي عايشاه. يمكن أكتر لحظة عبثية في الفيلم كله كانت في مشهد النهاية، الضابط اللي من المفترض يكون ممثلا للقانون، والحارس على العدالة، يقرر بشكل مفاجئ إنه ياخد حقه بإيده، يمسك رشاش… يدخل على حفلة رجال الأعمال الفاسدين… ويفتح النار عليهم كأننا في فيلم انتقامي من نوعية "القصاص الفردي"، مش في فيلم بيحكي عن مؤسسات دولة وفساد منظم! المشهد مكتوب ومصور وكأنه لحظة تشفي… لكن في الحقيقة، هو لحظة فقدان تام للعقل والمنطق. إزاي رجل قانون، المفروض إنه يمثل النظام، يتحول فجأة لإعدام متنقل؟ فين التفكير؟ فين الصراع الأخلاقي؟ فين المسؤولية القانونية؟ ولا كأننا بنتكلم عن دولة ليها قضاء! السبب؟ إن ابنه مات بعد ما شرب من اللبن الفاسد، وده طبعا شيء مأساوي… لكن مش مبرر أبدا للانهيار التام للقيم اللي المفروض الفيلم بيدافع عنها! المشهد ده بيكشف الخلل في الرؤية من أولها: الفيلم بيصرخ ضد الفساد… بس بيقدم العدالة على إنها ثأر شخصي، لا مؤسساتي، وبيخلي البطل – اللي هو ضابط – ينفذ قانون الغاب، في مشهد أقرب لأفلام الانتقام الأمريكية، لكن من غير أي عمق درامي، ولا تأسيس نفسي، ولا حتى منطق سينمائي محترم. في اللحظة اللي كان مفروض الفيلم يوصل رسالته عن "انتصار الحقيقة"، قرر يلبس بدل القانون… صديري واقي، ويدوس زناد، ويقول لنا: **"مافيش عدالة… بس في رصاص."** في النهاية **"عنبر الموت"** فيلم حاول يشتغل على موضوع كبير، وكان معاه ممثل قدير زي نور الشريف، ومخرج عنده رصيد زي أشرف فهمي، لكن الفكرة القوية ماتت بسبب حبكة ضعيفة، وشخصيات سطحية، وحوار بيقول كلام كبير من غير ما يحسسك بحجمه.