الحرية هي المطلب الأول والرسالة الحقيقية التي سعى لإبرازها والتأكيد على ضرورة وجودها كل صناع فيلم "ميكروفون" الحائز على الجائزة الأولى في المسابقة العربية في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير. كل الشخصيات في الفيلم على كثرتها تبحث عن التحرر كل وفق منظوره وظروفه وطبيعة نشأته، والحرية في الفيلم بمنظورها الواسع تتعدى كل الخطوط الحمراء وتتجاوز كل الأعراف والتقاليد الثابتة في المجتمع لتصطدم بمخلبي التدين والشرطة اللذان يقاومان التحرر بكل الوسائل ويحرصان على بقاء الوضع على ما هو عليه وفق رؤية...اقرأ المزيد الشخصيات. تم تصوير الفيلم بالكامل في الأسكندرية ويظهر فيه عشرات الشباب بشخصياتهم الحقيقية في إطار درامي يجمعهم حيث تدور الأحداث حول شاب يعود إلى مدينته بحثا عن حبيبته واصلاح علاقته بوالده بعد سنوات قضاها في أمريكا لكنه يكتشف أن ما عاد من أجله سراب، وأثناء جولة يائسة في الشوارع يلتقي شبان وشابات مغايرون تماما لما اعتاد عليه في مدينته فيندمج في عالمهم بقوة ربما بتأثير اختلاطه بهم في غربته. الشباب تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والخامسة والثلاثين لكن السمة الواضحة التي تجمعهم تتمثل في حالة عامة من الإحباط في امكانية تغير ظروفهم أو تغير نظرة المجتمع إليهم، منهم من يغني الراب أو الهيب هوب على الأرصفة ومنهم من يعزف "الروك" على الأسطح ومنهم من يرسم لوحات "جرافيتي" على الجدران ومنهم من يتجول ليل نهار في الشوارع على لوح تزلج "سكيت بورد". الصيغة العامة للفيلم كانت موفقة إلى حد كبير في التعامل مع هؤلاء الشباب الذين لا يمكن طرح مشكلاتهم أو أرائهم في فيلم تقليدي لأنها بالتأكيد أفكار ومشكلات غير تقليدية وربما كان العائق الوحيد أمام المخرج أحمد عبد الله، وهو نفسه المؤلف، في "تربيط" التفاصيل داخل قصة مشوقة تصلح في النهاية كفيلم سينمائي. الأسلوب الذي استخدمه المخرج في التسلسل الدرامي للفيلم كان مختلفا وربما صادما للبعض ممن أدمنوا السينما التقليدية واعتبروها الصيغة السينمائية الوحيدة المقبولة، لكنه كان الأسلوب الأنسب لطرح أفكار شبابية مشوشة ومحاولات ضبابية لتحقيق الذات من جانب أشخاص لا يجدون جهة أو شخصية واحدة تساندهم في تحقيق أحلام يعتبرها المجتمع متطرفة، في حين أن رؤيتهم للتطرف تتمثل في رفض المجتمع نفسه للتغيير. ربما كانت الحلقة الأضعف في الفيلم هي الخط الدرامي الخاص بعلاقة البطل "خالد" بحبيبته التي جسدتها "منة شلبي"، فكلما ظهرت الحبيبة كان الفيلم "يفصل" المشاهد عن التحرر القائم في أحداثه، حيث ينتقل من مشاهد الشوارع العشوائية غير المدققة سينمائيا بشكل مقصود إلى مشاهد تقليدية لحبيبين يجلسان في مقهى ساحلي هادئ ليتحدثان عن وقائع قديمة قصد المخرج أن يرتبها في الفيلم بطريقة عكسية ليؤكد على الوضع المعكوس اليائس الذي يعيشه الشباب. لكن لا يمكن القول إنه كان من الأفضل إلغاء هذا الخط الدرامي أو قصره على مشاهد محدودة لأنه بات واضحا في نهاية الفيلم أنه الرابط الدرامي المنطقي بين كل الشخصيات التي تحولت الحوارات بين البطل وحبيبته إلى صيغة تفسير لها في بعض الأحيان وصيغة تزيد من غموضها في أحيان أخرى. خطان دراميان أخران لا يمكن اغفالهما الأول خاص بشخصيتي "مجدي" و"سلمى" اللتان قدمهما أحمد مجدي ويسرا اللوزي، وهما الصيغة الرمزية الحيية للفيلم حيث يسعيان طوال الأحداث لإنجاز فيلم عن الفرق المستقلة ليطرح "ميكروفون" من خلالهما كل مشكلات صناع السينما المستقلة الشباب ربما كنوع من الإنحياز إلى النفس كون معظم المشاركين في الفيلم يعملون في تلك السينما أو ينتمون إليها بالأساس. والخط الأخر هو شخصية بائع أشرطة الكاسيت الشاب الذي قدمه عاطف يوسف، والذي يسعى طوال الفيلم للهرب من قبضة الأمن رغم أنه يقوم ظاهريا بعمل مشروع ويقضي يومه في الشارع بحثا عن مورد رزق، لنجد الأمن يكف يده عنه حين يحتمي بلافتة مرشح حكومي في الانتخابات ثم يضربه بلا رحمة في نهاية الأحداث بعد دمار اللافتة عرضا في مشهد هزلي واضح الدلالة. نعود إلى اختيار الإسكندرية لتصوير الفيلم لما فيها من خصوصية شديدة، فالمدينة الكوزموبوليتانية تضم حشدا من الثقافات وبالتالي يتوقع من البشر فيها أن يقدموا على التحرر أكثر من غيرهم من سكان مدن أخرى بينها العاصمة القاهرة. لكن وفي المقابل فإن الأسكندرية الحالية تعد أحد أبرز معاقل التشدد الديني الذي فرض على أهلها حالة من الحصار، إن جاز التعبير، ظهرت في مشاهد محدودة في الفيلم لكن بدلالات واضحة. اشارات كثيرة سريعة واضحة الدلالة ضمها الفيلم أيضا منها ما له علاقة بمحاولات تغيير الفكر السائد لدى الأجيال الأقدم فيما يخص الذوق الفني تحديدا، فالمسئول الحكومي يرفض تمويل الفريق الغنائي الشبابي لأنه يقدم صيغة فنية جديدة ويمنح التمويل لفتاة تعيد غناء تراث كوكب الشرق أم كلثوم، والمسئول نفسه يعتبر "الجرافيتي" تشويها للجدارن والمباني بينما لا يجد غضاضة في تشويه نفس الجدران بملصقات قبيحة خاصة بمرشحي الإنتخابات. وحرص الفيلم طوال أحداثه على الإبتعاد عن المناطق الملتهبة حتى لا يصطدم بعوائق رقابية لكنه ضم اشارات سريعة للكثير من الأحداث السياسية القائمة بينها الانتخابات كطقس مجتمعي له الكثير من الخصوصية في مصر، إضافة إلى مشاهد سريعة خاطفة لتظاهرات واعتصامات ظهر في احداها واضحا صورة الشاب السكندري خالد سعيد الذي لازالت قضيته تحتل مكانة بارزة في علاقة المواطنين بالجهاز الأمني. لا يمكننا أن نغفل أبدا في استعراضنا للفيلم اعتماده تلك الصيغة الواقعية جدا في سرد الأحداث من خلال حوار طبيعي جدا بين الشخصيات يبدو أنه في أغلبه مرتجل حتى أن بعض الألفاظ فيه تصل السينما ربما للمرة الأولى، وإن كان البعض ممن حضروا العرض الأول للفيلم أبدوا انتقادات واسعة على مستوى الحوار المتدني وكأن المطلوب من السينما أن تزيف الواقع وتقدم للجمهور على لسان أبطالها حوارا لا يستخدمه هؤلاء الأبطال في حياتهم الطبيعية. يبقى أيضا الإشارة إلى المغامرة التي خاضها صناع الفيلم بتقديم عمل مختلف يركز على شباب يتم تهميشه لأسباب مختلفة أبرزها الخوف من أفكاره المتحررة التي تطالب بتغيير الكثير من التفاصيل اليومية في المجتمع وتجاوز تابوهات عدة باتت من تكرارها سمة أساسية لحياة المصريين رغم أنها ليست جزءا من تكوينهم الثقافي أو الحضاري. ولابد من توجيه الشكر لفريق الفيلم الذي أتاح للجمهور فرصة معرفة مجموعة من الفرق الموسيقية الشبابية المتميزة، والدفع في اتجاه منح تلك الفرق وغيرها فرصا لتقديم فنونهم والتعبير عن أنفسهم في اطار قانوني بدلا من اللجوء إلى أطر غير قانونية معروفة في كل أنحاء مصر للهرب من الملاحقات الأمنية التي تعتبر هؤلاء الفنانين الشباب مارقين أو متجاوزين رغم أنهم يحاولون فط استخدام حقهم الدستوري في التعبير عما بداخلهم. وكان اختيار الأغنيات ومواقع تداخلها في الأحداث موفقا بشكل كبير حتى أنها كانت الأفضل على الإطلاق في الأحداث واستجلبت لمرات عدة تصفيقا حادا في العرض الأول من جانب جمهور فوجئ بمدى الوعي السياسي والثقافي الكبير لدى شباب يعيشون على هامش المجتمع لكنهم يستحقون أن يكونوا في صدارة المشهد.
قليلة هي الأفلام التي تهبك البهجة وميكروفون هو أحدها ...دخلت إلى قاعة العرض التي سيعرض فيها الفيلم متوجساً لأني لست من عشاق فيلم هليوبوليس التجربة السابقة لفريق العمل المخرج والسيناريست أحمد عبدالله والفنان خالد أبو النجا، وغادرتها سعيداً بكم هائل من البهجة يملأ روحي. فمنذ الستينيات و السينما المصرية عاجزة عن صنع فيلم غنائي حقيقي، واكتفت خلال 50 عاماً بمحاولات شرفية لم ترق إلى الجدية من خلال الإستعانة بمطرب يقوم ببطولة الفيلم و يغني بعضاً من أغانيه - ينعي ولده ويصلح أحذية - وأعلنت السينما...اقرأ المزيد الخصام مع الموسيقى ، حتى أتى ميكروفون ليصالحها عبر أداء مجموعة من فرق "Under Ground" السكندرية لمجموعة من أغانيهم الخاصة التي منحت الفيلم حيوية متدفقة، وأعطت المشاهد بعداً حميمياً أستغله أحمد عبدالله جيداً من خلال تطويع السيناريو ليشبه أبطاله، فتماسكت الخيوط الدرامية فيما يشبه النوتة الموسيقية. اعتمد الفيلم منذ بدايته على خطوط درامية متفرقة تتجمع بين يدي شابين ( يسرا اللوزي وأحمد مجدي) يقومان بصناعة فيلم وثائقي عن الفرق الموسيقية في مدينة الاسكندرية، ويشاركهما مصري عائد من الخارج ( خالد أبو النجا ) بعد إقتناعه بحيوية موسيقاهم وصدق فنهم في الحلم بتقديم تلك الفرق للطرف الثاني من المعادلة الفنية وهو الجمهورمن خلال إقامة حفل فني لهم ، ثم يعاني من الإخفاقات المتكررة نتيجة التعنت الحكومي في المركز الثقافي المسؤول عن تقديم مثل تلك الأفكار - والتي سبق وعانت الفرق نفسها منه واحدة تلو الأخرى - حتى يقرر الإعتماد على نفسه حتى يصطدم بالتعنت الشعبي نتيجة التغيير الذي أطاح بالحريات للمجتمع ككل. إلا أن كل تلك الإخفاقات لم تمنع البهجة في أن تتدفق في كل مشهد شاركت فيه تلك الفرق من خلال أداء حقيقي جدا وتلقائي للغاية أو من خلال أغانيهم المستمدة من كل أزمات المجتمع المصري وكبواته، وعلى الرغم من أني لست من عشاق موسيقى الهيب هوب والراب اللاتي تقدمها تلك الفرق إلا أني استمتعت تماما بكل أغنية في الفيلم، لأنها مستقاة من أرواحنا كمصريبن وتحمل نبض شبابنا. السيناريو في حد ذاته مكتوب بحرفية عالية جعلته سيمفونية عزفها كل المشاركون في الفيلم، من خلال إيقاع لاهث شارك فيه أكثر من 45 ممثل ما بين مبتدىء ومحترف، أضاف إليه الإخراج عنصر أخر من خلال المزج بين الواقعية والأداء الفطري لممثلين يقدمون حياتهم الحقيقية وممثلين محترفين تجبرهم النوتة الموسيقية على الإنصياع لعجلة التلقائية والواقعية الدائرة في الفيلم. أعتمد المخرج أحمد عبدالله على ملكته الخاصة في المزج ما بين الوثائقي والروائي في فيلم واحد وان تفوق على نفسه هذه المرة لأنه أحس وشاهد ودرس على العكس من فيلم هليوبوليس، وكذلك تمكن من خلال الإيقاع السريع في عرض الوثائقي دون أن يشعر المشاهد بالملل، وان كان الخط الدرامي الخاص ببائع الشرائط غير مبرر في الفيلم، خاصة وأن حذفه بالكامل لن يضر بالفيلم . كاميرا طارق حفني - الفوتوغرافية - كانت بطلاً في هذا الفيلم من خلال مجموعة من المشاهد الحية، والتي اتسقت تماماً مع حالة الفيلم وصدق أبطاله، خانتها فقط في أحيانا قليلة الإضاءة. الأداء التمثيلي ككل والذي امتزج فيه الإحتراف بالحقيقة أكمل النوتة الموسيقية التي كتب عليها سيناريو الفيلم، فاتخذ كل نجم موقعه تماماً على السلم الموسيقي بين حيوية المبتدئين وموهبة المحترفين. وان كان النجم خالد أبو النجا قد قال لي في حوار سابق معه أن فيلم ميكروفون يملك "باسبورا" يمكنه من السفر للعديد من المهرجانات، إلا إنني اضيف أن فيلم ميكروفون قد أصدر شهادة ميلاد لسينما مصرية جديدة ومختلفة، سينما تحمل بكل مفرداتها المعنى الحقيقي لكلمة سينما.