قد يحتوي النقد على معلومات تحرق القصة: تُحسن الرقابة صنعاً عندما تمنح الأفلام المثيرة للجدل ترخيصاً بالعرض التجاري العام؛لأنها تفوت الفرصة على أصحابها في المتاجرة بقرار المنع،وتقديم أنفسهم للرأي العام بوصفهم شهداء الحرية والإبداع،وأفلامهم ضحية القهر والمصادرة ! حدث هذا مع فيلم «أسرار عائلية»،الذي أقام مخرجه هاني فوزي الدنيا ولم يقعدها بحجة أن الرقابة صادرته،ومارست وصاية على صانعيه،ونجح في إيهام الجميع من حوله بأن الفيلم سيمثل،في حال تراجع الرقابة عن موقفها المتعنت،فتحاً جديداً في ما يتعلق...اقرأ المزيد بالقضايا التي تناقشها السينما المصرية.وفور أن عُرض الفيلم،بموافقة لجنة التظلمات،كانت الصفعة المدوية المتمثلة في انصراف الجمهور،واستياء النقاد،ثم كانت صدمة فشل الفيلم في تحقيق الإيرادات المتوقعة حتى أنه لم يحقق طوال شهر بأكمله سوى 270 ألف جنيهاً مصرياً ! ما حدث ينطبق،بالضبط،على فيلم «المُلحد»،الذي أشاع منتجاه ومخرجه أنهم تلقوا تهديدات أثناء التصوير،وبعد تحديد موعد طرحه في الصالات زعموا أن أصحاب دور العرض امتنعوا عن استقباله،بحجة تلقيهم تهديدات من «المتشددين»،ولأنني صدقت تصريحاتهم،وخشيت أن يُرفع الفيلم من الصالات،هرعت لمشاهدته،وفوجئت بأنني حيال تجربة تغلب عليها المراهقة الفكرية،والبلاهة السينمائية،ولم تبلغ درجة الوعي الذي اتسمت به أفلام تعاملت مع قضية الله والوجود،والبحث عن الذات الإلهية،بشكل أكثر حصافة،ورصانة،مُقارنة بفيلم «المُلحد»،الذي شاب رؤيته الكثير من الاضطراب،والتخبط،بالدرجة التي لا تدري معها إن كان الفيلم يبحث في حقيقة الوجود،ويُحذر من تنامي أعداد الملحدين،أم يُندد بالدعاة الجدد،كونهم يتاجرون بالدين،أم يهاجم الصحافة،لأنها تضم تجاراً من نوع آخر،أم أن الفيلم،وهو احتمال قائم أيضاً،يُحذر من العواقب الوخيمة للتفرقة بين الأبناء ! وضع كاتب الفيلم ومخرجه نادر سيف الدين يديه على كل هذه القضايا دفعة واحدة،من خلال الداعية الإسلامي،الذي اتخذ من قناة فضائية منبراً لتعريف المسلمين بالسنن والفرائض،لكن ابنه «نادر» ـ لاحظ الاسم ـ يُعارضه،ويُبارك الهجوم الذي يشنه ضده رئيس تحرير إحدى المجلات،ويواصل سلوكه الفظ،وشططه في معاملة أفراد الأسرة،إلى أن يكتشف شقيقه أنه ارتد عن دينه،وصار مُلحداً ! صدمة عنيفة زلزلت ووالده الداعية الشهير،وأفسدت علاقته وشقيقه،كما تسببت في انهيار أمه،لكن الشاب يُرجع إلحاده،في أغرب تبرير من نوعه،إلى خيبة أمله في والده،الذي يقول في القناة مالا يفعل في البيت،وحال بينه والزواج من الفتاة التي أحبها،بحجة أنها خادمة الأسرة ليس أكثر،فضلاً عن أنه دائم التفريق في المعاملة بينه وشقيقه،ويتاجر بالدين؛فالمبررات أوهن من بيت العنكبوت،ولا يمكن أن تكون سبباً في ارتماء الشاب في براثن صاحب مدونة إلكترونية وظفها للتغرير بالشباب،ودفع الكثيرين منهم إلى الإلحاد،عبر ما يُشبه عمليات «غسيل المخ»،التي تُشكك في النظام الإلهي،وترفض الاقتناع بوجود قوة غيبية تحرك الكون ! اتسم الفيلم بغلظة على صعيدي الشكل والمضمون؛فالأداء التمثيلي في أسوأ حالاته،والصحافي يتربص بالداعية،وكأن بينهما ثأر قديم والمناظرات بين «الملحد» و«المؤمن» تحولت إلى ثرثرة عقيمة أقرب إلى السفسطة التي يستعصى على الجمهور البسيط فهمها،والمواجهة المنتظرة بين «المُلحد» ووالده «الداعية» لم يعد لها وجود،بعد موت الأب نتيجة مداخلة على الهواء فضحت حقيقة ابنه،والشقيق لم يكن مؤهلاً لتفنيد حجج «المُلحد»،وصاحب المدونة،وتسببت المشاهد التي أعقبت مغادرة «المُلحد» منزل الأسرة،عقب موت الأب في تحويل الأمر إلى كوميديا هزلية أو ميلودراما هندية؛إذ هام الشاب على وجهه في الشوارع،وكأنه مجذوب،وبات يترنح،ويفقد توازنه،في كل مرة يُرفع فيها الأذان.وفي «مونولوج» غاية في القبح والركاكة يتطاول على الذات الإلهية،وداخل المسجد تزول الغشاوة قليلاً،مع سورة «الرحمن» التي يتلوها شيخ المسجد،لكنه يكابر،فيما يتراجع،ويبدأ في تغيير قناعاته بمجرد التقائه «بائعة البيض» القانعة بوضعيتها،والواثقة في كرم ربها ! فشل السيناريو،أيضاً،في رسم شخصية «الداعية» بالشكل الذي يدفع إلى كراهيته،واستحق تعاطف المشاهد،بسبب تواضعه ودماثة خلقه،فضلاً عن كونه لا يمت بصلة إلى الدعاة الذين اتخذوا من الدين وسيلة للتربح،والتغرير بالبسطاء،ومن ثم انهار بناء الفيلم المعتمد على تحميل «الداعية» مسئولية ما أصاب ابنه «المُلحد» الجاهل،المتغطرس،معدوم الثقافة وسطحي الخلفية الدينية،ومثلما قدم الفيلم أسباباً ساذجة للإلحاد،جاءت إصابة «المُلحد» بسرطان الدم بمثابة الخطأ التراجيدي الذي ينسف القضية بأكملها؛فالشاب لم يعد إلى دينه نزولاً على فكر نجح في تثبيت إيمانه،وأضاء الجانب المظلم في روحه،بل عاد إلى صوابه خشية الانتقام الإلهي،وتجنباً لمصير يجهله،وهو ما يعني فشل صانعي الفيلم في رسم الأبعاد الحقيقية لظاهرة الإلحاد،كما فشلوا في تعرية ظاهرة الدعاة الجدد !
من بين كل الأزمات التي تقاسيها السينما المصرية منذ سنوات طويلة، تظل أكثر الأزمات حضورًا وإلحاحًا – بالنسبة لي – هي الأزمة الإبداعية، والتي يتجلى مظهرها الأساسي والمتكرر في اختلال الأولويات لدى صانع الفيلم في مصر، حيث الاهتمام الزائد من طرفه بما يريد قوله على حساب كيفية قوله وصياغته بطريقة تليق أكثر بطبيعة الوسيط السينمائي، وليس بما يليق بالوسيط الإعلامي أو بوسائط أخرى ذات طبيعة شعبية وشفاهية مثل خطب الجمعة أو المجالس ذات النكهة الاجتماعية. قد تبدو الفقرة السابقة ثقيلة وذات طابع أكاديمي بحت،...اقرأ المزيد لكنها كانت لازمة للغاية عند تناول فيلم "الملحد"، التجربة الكتابية والإخراجية الأولى للمخرج نادر سيف الدين، والذي واجهته العديد من المشاكل قبل وبعد التصوير من تكرار تأجيل موعد العرض والتعنت الرقابي وغيرها من المشاكل حتى وصوله لدور العرض السينمائي في يوم الأربعاء الماضي، والذي يتجلي في جانبيه الدرامي والفني - في ذات الوقت – الصورة الكاملة والمفجعة للأزمة الإبداعية. بالنسبة للجانب الدرامي، فإن أولى المشكلات التي تواجهنا هى الطريقة التي ينظر بها الكاتب والمخرج إلى بطل فيلمه نادر أحمد الشيخ (محمد عبدالعزيز)، وهي نظرة فوقية جدًا تنطوي على الكثير من التعالي، مما يترتب أنه يطلق حكمًا أخلاقيًا على بطله الرئيسي، والأسوأ أنه يخلط بين هذا الحكم الأخلاقي والتوجه العقائدي للبطل المتمثل في الإلحاد، مفترضًا وجود ربط اشتراطي بينهما بالضرورة، بالرغم أنه لا يفترض بصانع أي فيلم أن يحكم على شخصياته، وإنما أن يفهم دوافعها ومبرراتها ليتناولها بشكل أكثر نضجًا وأكثر إنسانية، وليس لكي يجعل منها "عبرة لمن يعتبر" أمام المشاهدين. النتيجة الأكيدة والطبيعية لتناول كهذا أن الشخصية ستصير منمطة وأحادية البعد بقدر هائل، وهو ما انعكس فعليًا على الطريقة التي يؤدي بها محمد عبدالعزيز شخصية نادر حسبما رأها من النص المكتوب وحسب توجيهات المخرج، حيث يظهر في غالبية مدة الفيلم عابسًا ومهملًا لعمله وذو ابتسامة جانبية مستهزئة بشكل شيء، ويتعامل بطريقة بالغة القسوة مع كل أفراد أسرته، خاصة مع والده (صبري عبدالمنعم) والفتاة التي تحبه (ياسمين جمال). والغريب في الأمر أنه يتحول للنقيض تمامًا على حين غرة في الثلث الأخير من الفيلم، وبدون تعليل كافي لهذا التغير إن لم يكن هناك تعليل من الأساس. المشكلة الثانية هى رغبة المخرج في زيادة التأثير الدرامي لقصته، مما أدي إلى اكتسابها الكثير من الميلودرامية، كما أنه يحمل جميع المشاكل والابتلاءات التي تحل بالعائلة على عاتق الابن العاق الملحد، فالأب يموت كمدًا، والشقيق يفسخ خطبته "حتى لا يُحمل خطيبته عبء المشاكل التي سببها إلحاد الأخ"، والأم (ليلى عز العرب) والفتاة التي تحب نادر لا تفعلان أي شيء طوال الفيلم سوى البكاء والنحيب. المشكلة الثالثة هى المبالغة في تصوير بعض التفاصيل داخل الفيلم، مثل أن يتم تجسيد جميع الملحدين داخل أحد الشقق المفروشة وكأنه وكر للمخدرات أو للدعارة، رغم أنهم من الممكن أن يتجمعوا ويتحدثوا بحرية كبيرة في أي مقهى من مقاهي وسط البلد، أو أن يدفع مصطفى لأحد أتباع البروفيسور (حسن عيد) مبلغًا هائلًا مقابل أن يوصله له، وكأن البروفيسور زعيم عصابة يتطلب الوصول إليه كل هذا العناء، ناهيك بالطبع عن مشاهد الصحيفة، وتفرغ رئيس التحرير الكامل لملاحقة الداعية أحمد الشيخ (صبري عبدالمنعم) وأي شيء يتعلق به وبعائلته، مبررًا ذلك في مشهد خطابي طويل يحمل روح (بروتوكولات حكماء صهيون). أما عن الجانب الفني، فتأتي المحصلة النهائية لتكون أقرب للسهرات التليفزيونية التي تعرض بعد منتصف الليل في التليفزيون المصري أكثر منها للفيلم السينمائي، فما يقرب من 90% من مشاهد الفيلم مصورة في ديكورات داخلية، حابسًا شخصياته معظم الوقت بداخلها ومهدرًا للكثير من إمكانيات التصوير الخارجي، كما أن منهج التصوير عتيق للغاية في استخدامه المكثف للقطات القريبة والطويلة، ويقترب من طريقة تصوير الفيديو في مسلسلات الثمانينيات والتسعينيات. الأكثر من ذلك أنه من فرط اعتماد الكاتب والمخرج على الحوار وشريط الصوت، يمكن للمشاهد ببساطة أن يدير ظهره للشاشة ويكتفي بالاستماع إلى الحوارات الدائرة والمحاججات الوعظية حول الإيمان والإلحاد ويعتبره بمثابة تمثيلية إذاعية، بالإضافة إلى حضور الموسيقى بمناسبة وبدون مناسبة طوال الوقت حتى لو لم يستدع الأمر اللجوء إليها، كما أنها تعلو في الكثير من الأحيان على حوارات الأبطال لدرجة دفعت الكثير من المشاهدين في صالة العرض أكثر من مرة لسؤال من يجاورهم عما كان يقوله أبطال الفيلم.