عندما يصبح الشخصي عاماً

تتر البداية...أسماء طاقم العمل تتتابع بخط هو نفس الخط الذي كتبت السير الشعبية لأبى زيد الهلالي والزناتي خليفة وعنترة به، ولم تزل في بعض المقاهي العتيقة بعض لوحات بذات الخط على جدرانها تحمل إلى جوارها بعض تصاوير بدائية لأبطال تلك الملاحم، وعلى شريط الصوت هناك نواح لرجل صعيدي يتطابق أيضاً مع النواح الذي يمكن سماعه في حكايات الربابة لينذر بوقوع المأساة..ماذا يريد صناع الفيلم إذن؟ إنهم يخبرونك أنك على وشك التعرض لملحمة شعبية مصورة سينمائياً. حسناً..فلنتحدث قليلاً عن صفات الملامح الشعبية، إنها تسير بأسلوب سرد تقليدي يعتمد على البداية فالوسط فالنهاية، ولها بطل محدد تدور حوله الملحمة مع ظهور أبطال آخرين بخلفيات كاملة وشخصيات واضحة إنسانية ليست مطلقة الخير أو الشر، كما أن الصراع فيها يأخذ طابعا اجتماعياً في المعتاد، وبالرغم من تحقيق البطل لعدة انتصارات طوال الملحمة تدفعك كمستمع لها للتوحد معه، إلا أن النهاية غالباً ما تكون ميلودرامية تحتوى سقوطاً نهائياً للبطل، أليست هذه الصفات موجودة بشكل واضح في فيلم الهروب؟. ولكن الغرض من الملاحم الشعبية لم يكن الترفيه فحسب، بل كانت تورط المتلقي لها بداخلها لتصبح أزمة البطل هي أزمته، وهو ما يعرف في علم الدراما بالتوحد مع البطل (وهو اللفظ المشتق من علم النفس أصلاً)، وإلى هنا فلا شئ مميز في الملاحم الشعبية عن غيرها من الحكايات على اختلاف مسمياتها، ولكن الفارق الأساسي أن الملحمة تنقل المتوحد معها من مرحلة التوحد الشخصي إلى مرحلة التوحد الاجتماعي وهو الأعم، حيث أن مجتمع الملحمة ككل يتطابق وبشدة مع أي مجتمع معاصر، ولذلك تتبع الملحمة عادة بكلمة شعبية كدلالة على سهولة تقبلها وعدم التعجب منها، ويبدو ذلك بوضوح من استلهام العديد من صناع الأفلام لعدد ضخم من الملاحم الشعبية لصياغتها بشكل سينمائي، ومنها الملحمة الإغريقية الشهيرة الإلياذة والأوديسة، وهو ما يحدث في فيلم الهروب الذي اتفقنا بالفعل على تقديمه لملحمة شعبية، يضاعف من قوتها أن أحداث الملحمة لا تدور في عصر ماضي بل في فترة آنية، والتوحد مع البطل \"منتصر/أحمد زكى\" هو توحد عام، فمجتمع البطل لا يتشابه مع مجتمع المشاهد، بل هو ذاته، وأعداء البطل هم أنفسهم أعداء المشاهد، والخلفية السياسية الظاهرة عبر الأحداث (الجماعات الدينية، تهريب الأموال، الأساليب الأمنية في التعامل مع الرأي العام) هي خلفية ما نزال نشاهد آثارها حتى اليوم. والتوحد هنا لا ينتج من بناء شخصية منتصر فقط التي بناها السيناريست بشكل رائع، وأضفى عليها ما يؤكد ملحميتها كحديث الناس عن الشخصية وكأنها أسطورة، أو عشق منتصر للصقر كرمز مباشر له (كما في ملحمة أبوزيد الهلالى والغراب الأسود)، أو حتى بالحالة التشريحية العامة للمجتمع المصرى (مجتمع الملحمة) التي تنقلك كما ذكرنا من التوحد الشخصى إلى التوحد العام، فهناك أيضاً مخرج واع يدرك جيداً أهمية اللقطة الواحدة لخلق تلك الحالة الملحمية، ولديك ثلاثة مشاهد توضح ذلك بشدة، أولها مشهد الفرح حين يصعد منتصر لخشبة المسرح ويرقص بالعصا بشكل شبه لاواعى لتنسحب نظرة المرح من وجوه المعازيم ويقفون الواحد تلو الآخر ليظهروا دهشة صامتة تتضمن علمهم بانجاز منتصر لمهمته بدليل تراقصه بالعصا الآن، وثانيها في القطار عندما كان يتحدث مع الضابط \"سالم عبد الرازق/عبد العزيز مخيون\" ووقف ركاب القطار ليستمعوا لحديثهما، وثالثها مشهد جنازة الأم، المشاهد الثلاثة بينها عوامل مشتركة أساسية أهمها أن منتصر كان هو نقطة المحور بينما المجاميع هم محيط الدائرة، المعنى ليس مجازياً، تأمل المشاهد جيداً ستجد ذلك، فهذا التكوين البصرى يحمل المعنى الملحمى المقصود بشكل مباشر، حيث البطل هو المحور والآخرون هم المحيط الذي يشمله بالحماية كأى بطل من أبطال الملاحم الشعبية، ولذلك فقد قلنا أن عاطف الطيب (في هذا الفيلم بالذات) مخرج واع يدرك جيداً أهمية اللقطة الواحدة لخلق تلك الحالة الملحمية. أخيراً لا يجوز الحديث عن أي فيلم لعب فيه أحمد زكى أي دور، دون التطرق لموهبته المرعبة في التقمص الكامل للشخصية، ما الذي يمكن قوله هنا؟، أليس منتصر مثل البيه البواب كلاهما من الصعيد؟، أليس منتصر هنا شخصية معقدة وقوية مثل شخصية هشام بيك في فيلم زوجة رجل مهم؟، أليس يقدم شخصية ملحمية كتلك التي قدمها في فبلم شفيقة ومتولى؟، إذن لماذا لا يوجد أي عامل مشترك في ملامح الوجه أو نبرة الصوت أو البنيان الجسدى بين أي شخصية من هذه الشخصيات والأخرى؟، لقد رحل أحمد زكى دون أن يجيب عن هذا السؤال.