ذاكرة الجسد رواية العصر كما أسموها..
هذه الرواية التي تلقت نجاحاً منقطع النظير في الوطن العربي لما حملته من أهمية و رقي في كل شيء حتى آخر لحظة و قبل تصويرها كمسلسل كانت لا تزال تنبض بالتألق و النجاح .. لكن سرعان ما تلاشى كل ذلك بعد مشاهدة المسلسل الذي سقطت من خلاله كل الأفكار و الشغف و المتعة التي كنا نعيشها ونحسها ونتخيلها من خلال الشخصيات التي كانت تعيش على الورق أثناء قراءتنا للرواية..
الذاكرة أضحت دون جسد، و الجسد فقد ذاكرته بفقدانه لمعالم الرواية .. هكذا أصبح مسلسل ذاكرة الجسد للأسف الشديد، جسد خالي من الروح و الإحساس و المشاعر، جسد بارد مثل الجليد و ذاكرة فقدت ذاكرتها وسط حوار كثير ممل و بعضه غير منطقي و عبارات في غير محلها من خلال حديث الشخصيات، و مزيجاً بين اللغة العربية و الدارجة و اللغة الفرنسية، غابت فيها الأحداث المحركة للقصة و الحبكة التي تزيد في تشويق المشاهد و شده و إرغامه على المتابعة مثلما يحدث في القصص الشهيرة الأخرى العربية و الغربية التي تحتوي على أهم أسس و قواعد على كاتب السيناريو تتبع خطواتها بدقة و عدم تجاهل أو نسيان أي نقطة أو بند من بنودها للخروج بسيناريو قوي مترابط و مشوق ..
لكن ما لاحظناه كان العكس تماماً في ذاكرة الجسد و ما حدث حط من قيمة الرواية و أنزل مستواها من الرقي للممل و البرود برغم الأفكار الرائعة التي احتوته القصة و الخطوط المهمة و البطولية التي سارت عليه.. لكن ضعف السيناريو و اعتماده على الحوار القاتل و الممل و الذي يقضي على أية قصة ومهما كانت روعتها و نجاحها، ضعف السيناريو خنق كل تلك الأفكار و الثقافة الراقية مما جعل المسلسل رواية منطوقة لا غير.. انصب من خلاله الأبطال في قالب و مسار و اتجاه واحد جامد و راكد.. خالٍ من الأحداث المحركة و المشوقة .. و خطأ الكاتبة أنها لم تعرف ماذا تكتب؟ ماذا تنتقي وماذا تترك من الرواية !! الكاتبة الدرامية لم تخرج عن جلباب الكاتبة الروائية و قد نقلت معظم الحوار الذي كتب في الرواية و بأسلوب أدبي بحت و هذا أكبر خطأ وقعت فيه الكاتبة الدرامية مما جعلنا نرى المسلسل على شكل رواية لا دراما حقيقية تشاهد، فهناك فرق كبير بين الكاتب الأدبي و الكاتب الدرامي وكلاهما يضع أفكاراً و أسلوباً خاصاً به لا الرواية تشبه السيناريو و لا السيناريو يشبه الرواية، فالرواية تكتب بأسلوب منمق أدبي يختار فيها الكاتب عبارات و ألفاظ معينة أدبية ، في حين الكاتب السينمائي أو الدرامي فهو مضطر لاستخدام الصورة و الحركة و الصوت و عليه تحويل تلك الصفحات اللفظية و الوصفية إلى صور متحركة حية ..
الإبداع ليست له قيود، بإمكان للكاتب أن يحذف و يضيف ما قد يراه و يحسه مناسباً يخدم حبكته الفنية و يخدم قصته الدرامية أو السينمائية طبعاً مع احترام و المحافظة على تسلسل الأحداث و منطقيتها، يقول الكاتب الكبير نجيب محفوظ إن تحويل العمل الأدبي إلى سينما معناه أنه الآن يعبر عن صناع الفيلم و أفكارهم، لا عن أفكاره هو. أي أن الكاتب الدرامي ليس عليه التقيد بالكاتب الأدبي و إتباع قصته بحذافيرها ، بل له أن يستخدم ما يشاء من الأفكار و الصور المعبرة التي تكون في إطار العمل السينمائي أو الدرامي الذي يخدم عمله الفني هذا..
المسلسل أصبح عبارة عن رواية بحتة خالية من روح الدراما و الكتابة الدرامية ، لم يحتوي على أية فكرة جديدة ولم يحمل ما يتخطى توقعات المشاهد، حيث القصة ركزت على الشخصية فقط مما جعلها تميل نحو الملل عوض عن تطوير حدث معين وفق شخصيات مركبة في ذات الوقت ومثل هذه القصص هي التي تكون ناجحة عن القصص التي تعتمد على الشخصية لوحدها أو القصص التي تعتمد عن الحدث لوحده مثلما حدث مع ذاكرة الجسد، فالعنصران معاً يعتبران أساسيان و مهمان جداً للحصول على سيناريو قوي متماسك عميق وممتع يا سادة..
كما أن الدافع الخارجي في القصة ضعيف جداً وهو الذي يسعى نحو تحقيقه البطل ومن أجله يتعرض إلى عدة مشاكل، في حين أن البطلة حياة لم يكن أمامها دافع واضح بل اتسم بالغموض و الإبهام تماماً مثلما اتسمت شخصيتها بالغموض و مشاعرها و انفعالاتها الغير المبررة في كثير من الأوقات وعدم إتقانها فن الإيماء بشكل جيد نظراً لعدم حرفيتها في مجال التمثيل، و نفس الشيء مع البطل السي خالد الذي انهارت أمام أعيننا بطولاته التاريخية و أضحت شيئاً من الماضي يذكر لا غير لاتسام حياته بالروتين القاتل و الملل الذي أوصله للمشاهد المسكين..
لم يتضح لنا الدافع الداخلي أيضاً لا من خلال الحاضر ولا من خلال الفلاش باك أي العودة إلى الماضي أيضاً !! فالدافع الداخلي يكاد يكون خفياً و غير واضح للمشاهد ولم يقم بكشف عن أية فكرة تخص الشخصية وبالتالي بقاءها شخصية مبهمة غير واضحة الملامح ؟؟ فالدافع الخارجي و الداخلي (هذا يقابل ذاك..) بالرغم من أن الدافع الداخلي مهم يبين عن الشخصية و الفكرة غير أنه يسير بشكل محدود و بطيء عكس الدافع الخارجي الذي يعتمد على الحركة المثيرة التي تجذب المشاهد و المتفرج لذا يعتمد عليه السيناريو و يعتبر الركيزة الأساسية له و العمود الفقري كذلك..
مشكلة المزج و التنقل بين اللغات حيث استخدمت الكاتبة اللغة العربية و اللهجة الجزائرية و الفرنسية مما سبب بعض التشتت لدى المشاهد كما أنه في غير محله و شيء غير مقبول ولا هو منطقي، كان بإمكانها الاكتفاء فقط باللغة العربية و الفرنسية كان سيكون منطقياً أكثر..
المسلسل لم يعطي المعلومات الكافية التي تخدم الشخصيات و الأبطال وتضع المشاهد في الطريق الصحيح ليتابع الأحداث بتسلسل و بشكل مفهوم ورسم صور واضحة للأبطال و إنما الكاتبة ركزت جلياً على الحوار و بنسبة 80% أي فاق حده في الممل الرهيب مما جعل الحلقات تشبه بعضها البعض لخلوها من الأحداث المحركة و المشوقة التي تدفع بالقصة نحو الأمام بل أدخلها في دائرة الملل و الركود..
إضافة إلى الكثير من الأخطاء التي احتوتها القصة من خلال بعض الألفاظ التي استخدمت بشكل غير منطقي و غير صائب وفي غير محلها، و لباس الشخصيات النسائية بشكل عام و البطلة بشكل خاص الذي لا يمت بالثمانينات بصلة بل يقترب من الستينات و السبعينات أكثر، كما أن هناك بعض اللباس الذي استعملوه من هذا الوقت أي الألفين..
إبقاء المشاهد و المتفرج في حيرة شديدة للكثير من المواقف التي حملتها العديد من المشاهد والتي تعود أسبابها لأخطاء في الإخراج مثال : لا ندري ما نسميه هل هو مشكل أو عدم القدرة؟ أو نسيان من قبل المخرج نجدت أنزور الكبير؟؟ في الفصل و الربط بين زمنين، الفلاش باك أي العودة إلى الوراء و الواقع و الحاضر أثناء تخيلات البطل السي خالد الكثيرة مما جعلنا لا نعرف إن كان البطل في حالة تخيل أو هو فعلاً واقع معاش يحصل حينها !!؟ وهذا خطأ فادح يرتكبه مخرج كبير مثل نجدت أنزور..
استخدام معظم الممثلين غير الجزائريين، جعل القصة خالية من الروح الجزائرية و الشعور بالغربة و الإحساس بفقدان الهوية نوعاً ما.. برغم احترافية بعض الفنانين السوريين الأشقاء الكبار، غير أن أساس القصة جزائرية بحتة ولن تنجح سوى بشخصيات جزائرية لا فقط التركيز على البطلة أن تكون جزائرية فالبطل كذلك جزائري و بقية الشخصيات !!
ذاكرة الجسد رغم النجاح الذي حققته كرواية أضحت اليوم شيئاً غير مفهوم لدى الكثيرين من شرائح المجتمع فمثل هذه الروايات لا يقرؤها ولا يفهمها سوى الطبقة المثقفة و المتعلمة فقط ! في حين المسلسل فهو موجه لكل الفئات و الشرائح في الوطن العربي و التي تختلف من بلد لآخر و من شخص لآخر فلا التاجر يفكر مثل الميكانيكي ولا الطبيب يفكر مثل النجار ولا الأمي يفكر مثل الأديب والشاعر و الكاتب !!
القصة تحتوي على أبعاد ثقافية أدبية سياسية موجهة لطبقة معينة من المجتمع وهي الطبقة المثقفة، لكن للأسف قدمت لنا هذه المرة على شكل مسلسل وأيضاً كرواية!! احتفظت فيه بنفس الثوب و الملامح و المفاهيم سواء من خلال الأسلوب أو الألفاظ أو العبارات وحتى الانسيابية أخذت شكل الرواية لا الدراما التصويرية أو الكتابية..
قد نلوم الكاتبة الدرامية و لأسباب عديدة لا داعي لذكرها و قد نلوم أيضاً المخرج نجدت أنزور على إخراج ذاكرة الجسد من جسدها الفعلي و زرعها بجسد مزيف أدى بها للهلاك للأسف الشديد!!
وربما أيضاً لقلة خبرة الكاتبة أحلام مستغانمي في المجال الدرامي التلفزيوني الذي يتطلب خبرة ودقة و تتبع كبيرين من أجل تفادي مثل هذه الأخطاء الفادحة و المشاكل الخطيرة التي قد تنهي بمسيرة شخصيات كبيرة في الوسط الفني بشكل عام و هذا الذي لا نتمناه لكاتبتنا الرقيقة العذبة أحلام مستغانمي أبداً، رجاءنا الكبير يا أحلام الجزائر أن لا تستعجلي في تصوير أية رواية أخرى مستقبلاً و أن تتريثي و تدرسي كل خطوة قبل القيام بذلك و أن يقع اختيارك على أشخاص يتنفسون الجزائر و يعيشونها كي يقدمونها و يقدمونك بشكل يليق بكما فأنت جزءاً لا يتجزأ منها وهي الجزء النابض فينا..
تحياتي الخالصة لك و تبقين دائماً في أعلى المراتب مهما حدث يا حرة..
من كاتبة و سيناريست و شاعرة و رسامة جزائرية