عينان مشعتان صغيرتان هما أول ما يستوقفك في وجه يوسف شاهين، والاستيقاف هو المرادف المخفف للشنكلة التي تمنعك من تأمل باقي الملامح، بما فيها الأنف الحاد كسكين مشرعة في وجه العالم. ولا يأتي تأثير عيني "جو" من رسالة محددة بل من تضارب رسالتين متعارضتين تماما، فهما عينا قط جاهز لاستعادة صلة الرحم مع النمور. وهما في الوقت نفسه عينا طفل أراد أن يجرب نظارة والده بإطارها السميك، وينتظر منك أن تصوره لقطة للذكري.
واحد وثمانون عاما وواحد وأربعون فيلما لم تنجح في ترويض القط البري، ولم تقنع الطفل بالعدول عن نزق الطفولة، لكنه بفضل هذه الوحشية وذلك النزق تمكن من أن يكون هذا العبقري أو المجنون (كلاهما واحد) جو الذي نراه، والذي يخشون من استضافته علي الهواء لأنه منفلت مثل طفل عديم التربية! لكن للأسف، لايستطيع الطفل أن يختبيء بالكامل من درب الأعمار، و جرب أن يختبيء قليلا في لبنان من درب الآلام في مصر، وأسس بيتا وصنع سينما هناك، لكنه عاد بدعوة من عبدالناصر نقلها هيكل.
فعل الزمن فعله، بالالتفاف والحيلة، بأزمة في القلب عام 1977 لكن طقس فتح القلب لم يوقف تطلعه للحياة، واستطاع أن يصد هجوم الزمن ويمنعه من إزاحة سمات الطفولة من وجهه بالكامل ليشيد مكانها وجه الكهل، واضطر الزمن للالتفاف، وأخذ يراكم فوق السمات الطفولية طبقات الكهولة فالشيخوخة، وظلت الطفولة تخرج لسانها من تحت ، تعض وترفس، وتصرخ طلبا للإنقاذ في أحيان أخري.
وليس بريق الانتصار، أو قلة التجربة ربما، مظهر الطفولة الوحيد في وجه -جو- فما أن تفيق من أثر العينين حتي تكتشف الأذنين المنكفئتين إلي الأمام قليلا الكبيرتين إلي حد يفيض عن حاجة الوجه الطفولي، وهذا بحد ذاته إعادة للتأكيد علي أن جو لم يغادر مرحلة العمر التي تبدو الأعضاء فيها مجمعة كيفما اتفق، قبل أن يخرطها الزمن ويصنفرها ويوزعها هارمونيا. صوانا الأذن بحجمهما الكبير وبتحفزهما إلي الأمام يريدان احتواء العالم. ولابد أن تنتظر فرصة، يضحك فيها جو من قلبه لتكتشف أن له فما كبيرا يتمدد أثناء الضحك حتي يلامس الأذنين، ثم يأتي الببيون (الذي يرتديه أحيانا كحل وسط بين الملابس الرياضية والرسمية) فيبدو مثل طفل تستعجل أسرته نضوجه ببدلة العيد.لكن عيني وأذني يوسف شاهين لاتعملان عندنا، إنهما بالأساس تشتغلان عنده، وتواصلان تزويده بكل ما يحتاجه الفنان لكي يكون بالضبط: يوسف شاهين.
وستستغرب عندما تراه يدفع بأذنه إلي الأمام بيده، ويطلب إعادة السؤال، فلا يمكن أن يكون هناك صوان أذن بهذا الحجم ويحتاج صاحبه إلي التدقيق، فالأغلب أنه يعطي نفسه الفرصة ليختار الشخص الذي سينعم عليه بلقب "حمار".. السائل أو المسئول عنه أو ذاته، ليس ذاته تماما فيوسف شاهين ليس لديه شك في أنه عبقري، لكنه أحيانا ما يأتي بالصوت الاحتجاجي الاسكندراني ويتبعه باستغراب: دول فاهمينا احمرة! جمع الحمار علي أحمرة يجوز من يوسف شاهين ولايجوز من غيره، ورأيه أن كثيرا من القرارات التي تتخذها الحكومة هي عملية استحمار مؤكدة، ولذلك فهو لا يتأخر عن الاحتجاج في كل مناسبة.
ومن رأيه أن الفنان الذي يحظي بشعبية لديه حصانة ينبغي أن يستخدمها لصالح الناس، وعليه أن يرفض بالصوت العالي كافة أشكال الاستحمار سواء ما يتصل الممارسة السينمائية أو السياسية، وقد فتح الممارستين علي بعضهما البعض في فيلمه هي فوضي؟!.
ويعول يوسف شاهين علي الجمال كثيرا. حاورته بعد انتهائه من فيلم - الآخر- قال لي بتوله: لما تشوف حنان وهاني، بهجة، بهجة علي الشاشة! والجمال عنده يبدأ من العيون، وهو يحب الجمال مجردا، من دون تحديد الجنس، ذكر أو أنثي.
ما يريده يوسف شاهين في أبطاله وبطلاته هو -الطلة- المبهجة، بعد ذلك لاتهم الخبرة، فهو فواخيري من طراز نادر يشكل الطينة الجديدة، وينضجها بالتدريب والشخط والنتر ، وكثيرا ما يتفشخ التمثال بعد انتهاء الفيلم مباشرة .. وهذا ما يسمونه "لعنة يوسف شاهين"!
هي لعنة درجة النضج التي لايستطيع مخرج آخر أن يوفرها للطينة التي يبست علي القمة من اللحظة الأولي، فكل خطوة بعد العمل مع يوسف شاهين تأتي لأسفل، دحرجة أحيانا وانزلاقا سريعا أحيانا، ووقوعا مفاجئا من شاهق في أحيان أخري.
وهذا ليس ذنب -جو- المولع بالتشكيل، والذي لايكف عن فعل ذلك لأنه يري النجم داخل الشاب العادي ويناديه، مثلما كان رودان يستمع إلي نداء التمثال من داخل الحجر.
لايحمل أية مرارات مهنية، فقد ولد سينمائيا عام 1950 بفيلم " بابا أمين" ولم يتم نصف مدة الرضاعة الطبيعية للوليد حتي كان فيلمه الثاني " ابن النيل 1951" مشاركا في مهرجان كان. وقد رسخ يوسف شاهين اسمه في لائحة شرف السينما المصرية بثلاثة من علاماتها الكلاسيكية الكبري -باب الحديد 1958-، -الناصر صلاح الدين 1963- و-الأرض 1970- قبل أن يكتشف أن الدنيا أكثر تعقيدا من أن تكون مفهومة إلي هذا الحد، فبدأ في مغامراته الجمالية.
وأصبح تتابع الكادرات الجميلة علي الشاشة منتهي طموحه، فالفهم يأتي من روح الجمال، وليست وظيفة الفنان أن يفسر العالم، بل أن يجعله محتملا.
ولكنه يبدو في أفلامه الأخيرة (من المصير حتي اسكندرية نيويورك) قليل الثقة في الغموض، وفي طرق الإبداع الالتفافية، فجاءت رسائله السياسية مباشرة بما لايتناسب مع رسالة صانع الصور العظيم، هل هي ردة فنية، أم ضرورة سياسية ودور لايحتمل التأجيل؟
كانت لدي يوسف شاهين الفرصة ليعيش في أمريكا التي درس فيها السينما، وكان من الممكن أن يبقي في لبنان، أو يعيش في فرنسا التي تفتح أذرعها له دائما وقدم فيها تجربة -كاليجولا- التي أبهرت الفرنسيين في الكوميدي فرانسيز، لكنه لايري إلا مصر، فهي "هنومة" الفاتنة اللعوب، وهو "قناوي" المستعد للموت في سبيلها، وليس الموت معها!
.. جزء من كتاب "ذهب وزجاج" لـلكاتب عزت القمحاوي