يسري نصر الله في معهد السينما (3) : ''الفن مفيهوش صح وغلط .. الفن الحقيقي عن انتَ حاسس بإيه''

  • مقال
  • 02:04 صباحًا - 7 ابريل 2011
  • 3 صور



صورة 1 / 3:
ألفريد هيتشكوك أثناء تصوير فيلمه
صورة 2 / 3:
المخرج يسري نصر الله
صورة 3 / 3:
لقطة من فيلم "Strangers on a Train" الذي عرضه يُسري في محاضرته

في المُحاضرة الثالثة، بدا واضحاً – بالنسبة لي على الأقل – أن يُسري نصر الله لا يُحاول فقط أنيُعَلِّم طُلاّبه أشياءً عن الإخراج وتقنيات السينما ، بل يؤثر في وجدانهم ، يخاطبهم عن كيفَ يَرَوْنَ الحياة قبل أن ينقلوها على 35 مللي !

"أنا عايز نتكلِّم ، و(نتكلِّم) مش يعني أنا أتكلِّم ، بس يعني كُلِّنا نتكلِّم ،كل واحد منكم عنده صوت .. فكر وطاقة ومشاعر ، لازم قبل أي حاجة يفكّر يطلّع كل دهحتى لو هيقول كلام عبيط"

بدأ الحوار في المُحاضرة من نِقطة مُختلفة لم يُرتّب لها نصر الله ، حينَ سأله أحدالطّلاب عن الدّيكور ورؤية البعض بإمكانية الاستغناء عنه لصالح التصوير في أماكنطبيعية وحقيقية ، رد يُسري بأن الفن ليس بالضرورة أن يكون واقعياً إلى هذا الحد ،فأنتَ في الأول والآخر تقدّم رؤيتك وما تشعره وما تراه فيما حولك وما تريد إيصالهلمن يشاهدك ، وإلاّ فيمكنك صُنع فيلماً تسجيلياً وسيكون الأمر أفضل حينها !

ودلّل على ما يُقصده بمثالين كان الديكور فيهم بطلاً أساسياً في العمل ، الأول في تُحفته المدينة .. الذي صوّره بكاميرافيديو "سوني" عادية وليس كاميرا سينما ، وأدرك قبل بدء التصوير أن المشكلةالأساسية في كاميرا الفيديو أنها تجعل (الصورة) سَطح واحد .. ليس هُناك أبعادوليسَ هُناك عُمق للكادر وهي مُشكلة كبيرة بالنسبة لرؤيته للفيلم ، جَلَس مع سميربهزانو ناهد نصر الله و صلاح مرعي (مدير التصوير ، مُصَمّمة الملابس ، مُهندسالديكور) وقرّروا أن يحاولوا تحقيق عُمق الصورة وأبعادها بـ(الألوان) ، وكان ديكورمَرعي هو أهم عُنصر اعتمد عليه لتنفيذ ذلك.

المثال الثاني كان عن مُهندس الديكور العظيم أنسي أبو سيف في فيلم " إبراهيمالأبيض" ، وعن إدراكه منذ قراءته الأولى لسيناريو الفيلم حالة الهَوَس والمُراقبة الدائمة من شخصية "عبد الملك زرزور" لـ"حوريّة" ، فتعمّد أثناء تنفيذ الديكور أن يكون بيت الفتاة مُقابل لبيت العجوز في نقطة مُنخفصة عن تلك التي تم بناء قصره عليها فوق هضبة ، وأن يكون بيت الفتاة بنوافذ زجاجية كثيرة وكُلها يستطيع "زرزور" الإطلاع عليها ، من كادر واحد لديكور كهذا تستطيع إيصال الحالة كاملة ، ومُهندس ديكور "شاطر" يُسَهّل عليك كثيراً ما تريده كمخرج .

بعد ذلك بدأ بسري الجوانب الأساسيّة من مُحاضرته ، وتدور حول كيفية صُنع"الديكوباج" – تقسيم لقطات الفيلم لِصور ولقطات على الورق - ، وكيف أنهاالخطوة الأولى الحقيقية في إخراج الفيلم وتشكّله بداخل ذهنه أولاً وذهن العاملين معهثانياً .

وأكّد يسري – للمرة الثالثة على مدار ثلاث محاضرات – على أن الأساس هو أن تعرفأصلاً ماذا تحكي "لازم تعرف انتَ بتحكي إيه بحق وحقيقي" ، عن (الرؤية)التي تُلقي بظلالها على كل كادر تفكّر فيه في فيلمك ، وأوضح ما يقصده بمثالٍ رائع.. وهو المقارنة عن فيلمي " بداية ونهاية" ل صلاح أبو سيف(1960) والفيلمالمكسيكي الذي يحمل نفس الاسم "Principio y fin" للمخرج أرتورو ريبستين(1993) ، العملين مُقتبسين عن نص أدبيواحد وهو رواية نجيب محفوظ .. والعملين ينتهيان بانتحار البطل ، في فيلم أبو سيففإن انتحار البطل – عمر الشريف– هو عقاب - ذاتي وإلهي - على وصوليته واستغلالهلأسرته على مدار الأحداث ، في فيلم أرتورو تخبر الأم البطل في جملةٍ هامة أنه ليسمِلْك نفسه وأنه مِلك لأسرته ويجب عليه أن يرتقي بها من الفقر التي هي فيه ..وتصبح كل محاولات البطل هي تحقيق لمساعي الأسرة .. وحين تأتي لحظة الانتحار فيالنهاية تُصبح "تحرّراً" من هذا القيد ، "أترون إلى أيّ حد اختلفترؤية مُخرجين كُبار ؟ ، أحدهما رأى الانتحار عقاباً والآخر رآه تحرُّراً ،ومع ذلك فإن الفيلمين ممتازين ، لأن كل ما في فيلم أبو سيفأو أرتورو يُعبّر عن رؤيته وعن إدراكه لما يحكيه ، فالأصل هو أن تحدّد ماذا تُريدقبل أن تفكّر في الديكوباج ، لأن كل تفصيلة يمكنها أن تعطي حالة مختلفة تماماً" .

بعد ذلك قام بإعادة مُشاهدة وتحليل مشهد الافتتاحية العظيم لفيلم أورسون ويلز"لمسة الشر" والذي عرضه الأسبوع الماضي ، التحليل كان يَهْدُف لوضع"ديكوباج" المشهد ومحاولة فِهم ويلز أثناء تنفيذه : "لماذا أرادتنفيذ الافتتاحية في مشهد واحد ؟ أنتَ ترى قُنبلة وترى صاحبها وهو يظبطها على ثلاثدقائق ثم تنتظر انفجارها في أي لحظة ، اللقطة الواحدة تَجعلك مُتورطاً في الحدثبشكل من المستحيل الوصول إليه في حال قطَّع المشهد بشكل عادي" :

[http://www.youtube.com/watch?v=Yg8MqjoFvy4]

يُكْمل يُسري :"السؤال الآخر .. ماذا يُريد من المشهد ؟ ، يُريد منه عرض المكان والتمهيدللشخصيات والأحداث ، هو يضعك في قلب الأحداث مباشرةً حين ترى القنبلة "منزرعها ولماذا" ، ويعرض لك المكان .. الذي هو نقطة حدودية بين أمريكا والمكسيكعن طريق حركة العربة التي تُزرع فيها القنبلة إلى هناك .. وكذلك الشخصيات حيث نرىبطل الفيلم وبطلته ونعرف أن ظابط ونُدرك سريعاً أنه هو شريكنا في رحلة الكشف التيسنخوضها" ، وبعد دراسة "ديكوباج" المشهد في كل تغيّر لزاوية أو حجملقطة أنهى يُسري حديثه عنه من نقطة ما بدأ "أورسون ويلز كان يعرف ماذا يُريدمن لقطته الواحدة ، ورؤيته لكل كادر في الديكوباج أبرزت ذلك ، شاهد تناغم الضوء والظلال ..حركة الناس .. شكل الديكور .. حتى الماعز ، لا يوجد شيء متروك للصدفة" .

من تلك النقطة ، تحدّث يسري عن أنه لا يوجد في الإخراج شيء يجب أن يُترك للصدفة :"الأفلام كده ، شغل وتفكير ومشاعر وتواصل وحرق أعصاب عشان في الآخر تقدر توصل، بتفكّر إزاي تأثر في وجدان الناس بالأدوات السينمائية اللي في إيدك ، النوروالألوان والحركة ، إزاي كل ده يعبّر عن اللي انتَ حاسُّه/عايزه ؟!"

وأضاف أن الكثيرين يسألونه أحياناً عن مدى تفاعل المُشاهد العادي مع تفاصيلكهذه ، ولكنه يؤمن بأن ما تُريده سيصل ، ليس بالضرورة أن يفهم المُشاهد تماماً مايراه ، ولكنه يُعَوّل دائماً على وجدانية الأمر وأنه سيشعر بشيء ما ، وهذا هوالأهم ، ثم ابتسم وهو يُشَبّه "زي الملح في الأكل ، متقدرش تحدّده بالظبط أوتقول إن دي الكميّة المظبوطة ، بس لما بتخلّص الطبخة تقدر تعرف وتقول كويّس ولاناقص حاجة ، هيّ كده" !

ابدأ من نقطة "ماذا تريد من المشهد" وأسس للديكوباج على هذا الأساس ،ستصل لتحليله وستجد التفاصيل البصريّة التي تَنْدَمِج لتوافق رؤيتك ، وشَرَح : في" احكي يا شهرزاد" هناك مشهد يجلس فيه سعيد الخفيف مع الأخت الصغرى هناء علىالكورنيش ، ويبدآن في ملامسات حسيّة متتاليّة ، هو يُريد ذلك وهي أيضاً ، صَوّرتالمشهد في لقطة واحدة لمدة دقيقة ، لماذا ؟ أردت أن أعطي شعور "خيطالعنكبوت" الذي يَلْتَف حول كل منهم ، هو شعور يعرفه أيّ ممن مرّ بتجربة حسيّة.. تجد نفسك في الأمر دون قدرة على الخروج أو التوقف ، تماماً كـ"خيطعنكبوت" يلتف حول سعيد الخفيف وهناء وهو ما أردت تحقيقه بالكاميرا ، لقطةواحدة .. ألتف حولهم بهدوء .. أقترب لألتقط مشاعرهم وما أشعره أنا نحوهم .."وفي الآخر طِلع كده" .

هل هذا هو أصح الخيارات ؟ كيف تعرف أصلاً أنك وصلت للخيار الصحيح في تنفيذ المشهد؟ ، يُجيب يُسري : "مش مهم خالص ، عشان الفن مفيهوش صح وغلط ، الفن مسألةموود ومزاج ، الفن هو أنا حاسس بإيه وعايز أقول إيه" .

وانتهت المُحاضرة بعرضه فيلم "Stranger on A Train"للأسطورة ألفريد هيتشكوك ، طالباً من الجميع أخذ المُلاحظات عليه للنقاش حولها فيالمرة القادمة ، ومؤكداً أن هيتشكوك هو منجم ذهب حقيقي لأيًّ ممن يُريد أن يتعلّمعن السينما وعن الإيقاع وعن خلق الموود وعن الإثارة وجذب انتباه المُتفرج دائماًإلى ما يراه .



تعليقات