عندما نتذكر الفنانة وداد حمدي، فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا شخصية الخادمة خفيفة الظل، سواء التي تقوم بتوصيل رسائل الحب بين سيدتها والحبيب، أو حلالة العقد والمشاكل، وفي بعض الأحيان المشاكسة التي تتسبب في مشاكل لأصحاب المنزل الذي تعمل فيه، فمن يستطيع أن ينسى "بمبة" الخادمة الوفية التي تقف بجانب شادية، وتساعدها فى مقالبها التي تدبرها لـ رشدي أباظة، أو دورها في فيلم ورد الغرام، عندما كانت مرسال الغرام بين محمد فوزي و ليلى مراد، وغيرها الكثير من الأدوار التي نجحت فيها في رسم الابتسامة والضحكة على شفاه الجمهور.
وكغيرها من نجوم الكوميديا الذين قدموا السعادة لجمهورهم، ولكنهم حُرموا منها في حياتهم، عانت وداد حمدي كثيرًا في حياتها الخاصة، بدءً من اضطرارها للعمل في سن مبكرة للإنفاق على أسرتها، ومرورًا بزيجاتها الفاشلة، وكانت النهاية عندما قُتلت غدرًا على يد ريجيسير، ظنًا منه أنها تملك الكثير من الأموال.
وفي ذكرى وفاة خادمة السينما المصرية، التي أسعدت الملايين بخفة ظلها، نتذكر محطات من مشوار حياتها.
طفولة سعيدة
لم تكن السنوات الأولى في حياة وداد حمدي تنبأ بما تحمله لها الأيام لاحقًا، فقد ولدت في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ لأب يعمل بشركة الغزل والنسيج بالمحلة، و5 أشقاء هم مصطفى، ومحمد، وحمدي، وليلى ومديحة، كانت هى أكبرهم.
عاشت وداد حمدي سنوات الطفولة والصبا في المحلة بسبب عمل الأب، وعقب إحالته للمعاش عمل بالتجارة، وحقق نجاحًا كبيرًا فيها، وكانت حالته المادية متيسرة، ولهذا عاشت وداد حمدي طفولة سعيدة مع أسرتها، ولكن كما يقال دوام الحال من المحال، حيث تعرض والدها لخسارة في تجارته، فقد على إثرها كل ما يملكه، وساء حال الأسرة، وهنا تغيرت حياة وداد حمدي.
قاسم وجدي
لم يكن أمام وداد حمدي في ظل الظروف السيئة التي تعاني منها أسرتها، سوى البحث عن عمل، حتى تستطيع مشاركة والدها في تحمل أعباء الحياة، خاصةً أنها أكبر أبنائه، ومن هنا كان قرارها بالسفر للقاهرة، للبحث عن أي فرصة للعمل.
وفى القاهرة، نزلت في ضيافة عمها الذي كان يقيم بالسيدة زينب، ولأنها تمتلك صوتًا مقبولًا، فكرت وداد حمدي في أن تكون مطربة، وحلمت بمنافسة المطربين الكبار في عصرها، وبالفعل بدأت تذهب للاستديوهات والمسارح، وتعرض موهبتها الغنائية، ولكنها لم تجد أي استجابة، وهنا نصحها البعض بأن تذهب للريجيسير قاسم وجدي، الذي قدم عشرات النجوم لكي يساعدها في العمل بالمجال الفني، وبالفعل ذهبت للقائه، حيث وجد فيها استعدادًا للكاميرا، ورأى في ملامحها وجراءتها استعدادًا للغناء، فرشحها للغناء مع المجموعة في فيلم رابحة، وتوالت أعمالها بعد ذلك.
أوبريت شهرزاد
في تلك الأثناء، قررت وداد حمدي الاستقلال بحياتها، خاصةً أن طبيعة عملها تجعلها تتأخر فى عودتها للمنزل في بعض الأيام، فقامت بتأجير غرفة في حي شبرا، وانتقلت لها، ثم أرسلت لأسرتها عنوانها الجديد، فحضرت الأسرة بجميع أفرادها للإقامة معها، مما أدى لزيادة أعبائها، فطلبت من قاسم وجدي أن يقدم لها أعمالًا كثيرة، حتى تستطيع الوفاء باحتياجات أسرتها، وفي هذه الفترة أيضًا قرر زكي طليمات تقديم أوبريت شهرزاد عام 1942، وقام بتشكيل لجنة لاختيار فريق الكورس الذي يشارك في تقديم الألحان، فتقدمت وداد للاختبار ونجحت بتفوق، وبدأت تشارك في البروفات.
في تلك الأثناء، مرضت الفنانة عقيلة راتب بطلة الأوبريت، فقرر زكي طليمات تأجيل العرض، فذهبت له وداد حمدي، وعرضت عليه القيام بالدور، خاصةً أنها كانت تتابع البروفات، وتحفظ دور البطلة جيدًا، فوجىء طليمات بما تقوله وداد حمدي، وكانت إجابته الوحيدة على طلبها ابتسامة ساخرة منه، ولكنها لم تيأس، فقالت له أنها مستعدة للاختبار، ليوافق بعد إلحاح منها، وفوجىء الفنان والمخرج الكبير زكي طليمات بأداء وداد حمدي المتمكن وحفظها للدور جيدًا، فقرر قيامها بالدور لإنقاذ الموقف.
هذا جناه أبي
النجاح الذي حققته وداد حمدي في الدور جعلها تطلب من زكي طليمات أن يعطي لها فرصة العمل كممثلة، لأنها كانت تعلم أن إمكاناتها الصوتية لن تسمح لها أكثر من العمل كفتاة كورس، فاستجاب لطلبها، وأوصى تلاميذه الذين يقومون بإخراج مسرحيات أن يستعينوا بها في أعمالهم، فقدمت بعض المسرحيات، ثم تعرفت على المخرج المسرحي محمود السباع، وكان يُحضًر مع زميليه الفنان محمد توفيق ومحمد العزاوي لتكوين فرقة الطليعة، فانضمت لهم، وشاركت في بعض المسرحيات، واستمر عملها مع الفرقة حوالي ست سنوات، وعندما قام زكي طليمات بإعادة افتتاح معهد التمثيل عام 1952، أعلن أن من تلتحق بالمعهد من الفتيات سيعينها في المعهد، فالتحقت بالمعهد مع أول دفعة، وكانت تضم فاتن حمامة و سميحة أيوب، لكنها لم تستمر لأكثر من بضعة شهور، حيث تركت المعهد، لأن السينما أخذتها، وكان أول فيلم شاركت فيه "هذا جناه أبي" مع زكي رستم و صباح.
يوسف السباعي
قدمت وداد حمدي في أول أفلامها دور مدرسة، وفي الأفلام التالية قدمت أدوارًا أبعد ما تكون عن شخصية الخادمة التي اشتهرت بها، ولكن حدث أن اختارها الكاتب الكبير يوسف السباعي لتمثيل دور الخادمة في مسرحية "أم رتيبة"، فأدته بنجاح وتفوق، مما جعل هذه الشخصية تلتصق بها، وأصبح جميع المخرجين يستعينون بها عندما يكون لديهم دور خادمة، ولم يقتصر الأمر على ذلك فقط، فكان كُتاب السيناريو عندما يعلمون أن دور الخادمة ستمثله وداد حمدي، يتركون مكان الحوار الخاص بها فارغًا، لأنهم يعلمون جيدًا أنها ترتجل الحوار المناسب حسب ما يتطلبه الموقف.
وعلى الرغم من قيام وداد حمدي بأداء شخصية الخادمة في عشرات الأفلام، إلا أنها لم تكرر نفسها، حيث حرصت على أن تجعل الخادمة في كل فيلم لها "لزمة" معينة أو حركة طريفة خاصة بها، سواء كانت حركة جسدية أو بملامح وجهها، فكان المتفرج يراها في كل مرة في شكل مختلف، ومن أبرز أدوارها التي برعت فيها في تقديم شخصية الخادمة خفيفة الظل إشاعة حب، و ثورة المدينة، وورد الغرام، و الحموات الفاتنات وغيرها الكثير من الأفلام.
خفة دم
وقد علقت وداد حمدي في أحد حواراتها على شخصية الخادمة التي اشتهرت بها فقالت " أنا أحب دور الخادمة، مادام يعجب الجمهور، وقد اختاروه لي لأنه يحتاج إلى خفة دم، ولأن المنديل يليق بوجهي، ومع ذلك فقد مثلت أدوارًا آخرى مثل عاملة في مصنع، وتلميذة وبنت ذوات، ومحدثة نعمة، ومثلت روايات عالمية في مسرح الطليعة، كما مثلت في مسرحية فاوست لجوتة ومسرحية تحت الرماد".
4 زيجات
كانت وداد حمدي ترفض الزواج لرعاية أشقائها، وعندما اطمأنت عليهم، قبلت الزواج من مدير التصوير عبدالعزيز فهمي، ثم انفصلت عنه بعد فترة لكي يعود إلى بيته وزوجته الأولى، وبعد ذلك تزوجت الفنان صلاح قابيل، كما تزوجت الملحن محمد الموجي لمدة شهر واحد، أما آخر أزواجها فكان الفنان محمد الطوخي، وهو ممثل ومخرج إذاعي، كما قدم أيضا بعض الأفلام السينمائية، وهو والد الفنانة إيمان الطوخي، استمرت الزيجة لمدة سنوات وانتهت بالانفصال.
بعد تعدد الزيجات والطلاق، قررت وداد حمدي أن تقيم بمفردها فى منزلها بعمارة فينوس برمسيس، ورفضت أن يقيم أحد من أقربائها معها في المنزل، وكانت تخدم نفسها بنفسها.
الإيد البطالة نجسة
كانت وداد حمدي صاحبة رصيد فني هو الأكبر في تاريخ أي فنانة، حيث شاركت في أكثر من 300 فيلم، بالإضافة للعديد من المسرحيات والمسلسلات الإذاعية والتليفزيونية، وكانت تقبل أي عمل يُعرض عليها، وتؤمن بمبدأ أن الفن احتراف، وأن الإيد البطالة نجسة. وعلى الرغم من تقدمها في السن، إلا أن هذا لم يمنعها من الاستمرار في تقديم الأدوار.
نهاية مأساوية
مثلما أعطى الفن وداد حمدي الشهرة والمال وحب الناس، فإنه كان أيضا السبب في نهايتها، ومثلما كانت بدايتها فى الوسط الفني من خلال ريجيسير هو قاسم وجدي، كانت نهاية حياتها على يد ريجيسير أيضا هو "متى باسليوس"، الذي كان يعاني من أزمة مادية، وقتلها بدافع السرقة، ففي يوم 26 مارس عام 1994 وكانت حينها في سن السبعين، اتصل بها متى باسليوس مساعد ريجيسير لإبلاغها بأنها مطلوبة في عمل فني، وأنه سيأتي لمنزلها لإعطائها الورق، وبالفعل ذهب إليها، ورحبت به، ودعته للجلوس في الصالون، بينما ذهبت لإعداد كوب ليمون له، وبعد أن قدمته، طلب منها دخول الحمام، فسمحت له، وتوجهت لغرفة النوم، فدخل خلفها، وأخرج سكينًا حادًا ليقتلها، لم تتخيل وداد حمدي أن يفعل بها ذلك، فبكت وتوسلت واستعطفته، وطالبته بالرحمة، وعرضت عليه أن يأخذ كل ما معها، وكان 370 جنيهًا، بالإضافة لساعة يدها، ولكنه صمم أن يأخذ حياتها، فطعنها من الخلف أولًا، ولما استدارت مذعورة انهال على وجهها وجسدها، ثم قام بتفتيش الدولاب، فلم يجد إلا 370 جنيهًا، ولم يجد المصوغات والمجوهرات التي قام بقتلها من أجل الحصول عليها، حيث كانت الفنانة الراحلة تحتفظ بها في مكان سري بالدولاب.
وقد اكتشفت شقيقتها الحادثة، عندما ذهبت لزيارتها في منزلها، وعندما لم تفتح الباب، قامت بفتحه بمفتاح كانت تحتفظ به، فوجدتها مقتولة على السرير.. نشرت الصحف الخبر في اليوم التالي، وهزت الجريمة البشعة مصر كلها، وحزن الشعب المصري لهذه النهاية المأساوية، لفنانة طيبة القلب أعطت الفن حتى آخر لحظة في عمرها.