" تسمحيلي بالرقصة دي.. حد حايشك ياخويا ماترقص .. كده طب بس أروح أتحزم وأجيلك" من منا ينسى هذا الإفيه الذي لن يتكرر في تاريخ السينما المصرية، أو "نشنت يا فالح" الذي لا نزال نردده حتى الآن، أو " الكونياك مشروب البنت المهذبة" وغيرها من الإفيهات التي تذكرنا بالفنان الجميل استيفان روستي.
وعلى الرغم من أن معظم أعمال استيفان روستي انحصرت في أدوار الشر، فكان يقوم بدور الشخص الانتهازي، الصديق النذل، زعيم العصابة، المقامر، القواد، إلا أنك لا يمكن أن تكرهه، بالعكس، فقد كانت له طريقة مميزة في الأداء يمزج فيها الشر بالكوميديا، فيجعلك تحبه بدلا من أن تكرهه.
وإذا كان استيفان روستي اشتهر بأفلامه المميزة، وأدواره التي لا تنسى، فقد كان أيضا مخرجًا ومؤلفًا لكثير من الأفلام التي قُدمت في بدايات السينما المصرية، لذا يعتبره الكثيرون من جيل الرواد التي قامت السينما على أكتافهم.
وفي ذكرى وفاة استيفانو دي روستي الفنان الذي لم تجري في عروقه دماء مصرية، ولكنه كان مصريًا بحكم النشأة والميلاد والإقامة واللغة العربية التي أجادها ببراعة، نلقي الضوء على حياة هذا الفنان العظيم الذي قد يكون لم ينل المكانة التي يستحقها في حياته، ولكنه نال ما هو أهم، حب الجمهور.
بارون نمساوي
ربما تصلح قصة ميلاد الفنان استيفان روستي لأن تكون فيلمًا سينمائيًا تراجيديًا، فقد كان والده بارون نمساوي من أكبر العائلات الارستقراطية، وكان يقطن قصرًا في فيينا، ولكنه اختلف مع أسرته بسبب رفضه للزواج من ابنة عمه، وعلى إثر الخلاف سافر إلى إيطاليا، وهناك تعرف على فتاة إيطالية جميلة أحبها وتزوجها، ثم جاءا لزيارة القاهرة، فأعجبتهما الحياة فيها، فاشترى الزوج فيلا في حدائق شبرا، وأقاما فيها، وعاشا حياة سعيدة، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا، إذ تسرب أمر زواجه من إيطالية إلى أسرته في النمسا، فجن جنون والده، الذي أرسل يستدعيه تحت التهديد بحرمانه من التركة والميراث، إذا لم يترك زوجته الإيطالية ويعود إلى النمسا، فلم يجد الزوج حلا سوى ترك زوجته في مصر والعودة للنمسا، ولكنه ظل يراسلها، ويبعث إليه بالمال أحيانا، وبوعود تؤكد على عودته في وقت قريب أحيانا أخرى، خاصة أنها كانت على وشك أن تضع مولودها، ولكنه في النهاية لم يعد، ووضعت الزوجة مولودها، وأسمته على اسم أبيه استيفانو دي روستي.
بوسطجي
كان على الأم أن تتأقلم مع الوضع الجديد، فغيرت من أسلوب حياتها، واندمجت تمامًا في المجتمع المصري بعاداته وتقاليده، وقررت أن تبيع الفيلا التي تعيش فيها، وتسكن في شقة عادية، لكي تستطيع الانفاق على ابنها الوحيد. عاش استيفان روستي سنواته الأولى بين أهالي شبرا، ثم انتقل مع والدته إلى الإسكندرية، والتحق بمدرسة رأس التين، وعقب حصوله على الشهادة الابتدائية، التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وبدأ في تلك الفترة اهتمامه بالفن والتمثيل، ولأنه كان يجيد اللغة الإيطالية عمل في صفوف الكومبارس في بعض العروض الأجنبية التي تقام في دار الأوبرا، وفي نفس الوقت استمر في الدراسة، وكان المدرسون يحذرونه من الاستمرار في هوايته، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من التمثيل، وانتهى الأمر بفصله من المدرسة، بعدها لم يجد عملا سوى بوسطجي في مصلحة البريد، وعقب استلامه لعمله بحوالي 8 أيام، جاء إلى إلى المصلحة تقرير من المدرسة بأنه يعمل ممثلا، ونظرًا لاعتبار التمثيل في ذلك الوقت من الأمور المعيبة، تم فصله من المصلحة.
صبي حانوتي
في تلك الأثناء، تعرف استيفان روستي على راقصة باليه نمساوية، وحكى لها عن قصته منذ البداية، وحكاية والده الذي تركه، فعرضت عليه السفر معها إلى النمسا لكي يرى والده، وبالفعل سافر معها، والتقى بأبيه في فيينا، لكنهما سرعان ما افترقا مرة ثانية بسبب حب الابن لهذه الراقصة، ففشل في كسب عطف والده، وتزداد الأمور سوءً بموت صديقته في مستشفى الأمراض الصدرية، فلم يجد حلا سوى السفر لألمانيا، واضطر للعمل في مهن بسيطة لكي ينفق على نفسه، فعمل صبي جزار، صبي حانوتي، بائع متجول، راقص في ملهى ليلي، بعدها سافر إيطاليا، حيث عمل مترجمًا، ومن خلال عمله التقى بكبار النجوم هناك، وكانت المحطة الأخيرة له في أوروبا فرنسا، حيث عمل في استديو سينمائي هناك، وبدأ ظهوره في بعض الأفلام، بعدها قرر العودة لمصر.
عزيز عيد
بعد عودته لمصر، قرر استيفان روستي أن يشق طريقه في عالم الفن، فذهب للفنان عزيز عيد الذي كان على وشك تكوين فرقته المسرحية، فأعجب بإتقان استيفان روستي للإيطالية والفرنسية، وضمه لفرقته كممثل، وأسند إليه دور أمير روسي في مسرحية " خللي بالك من إميلي" فلفت كل الأنظار إليه، بعدها اشترك مع نجيب الريحاني في تقديم مسرحيات فكاهية "فرانكو آراب" من فصل واحد، كما شارك أيضا في الأوبريتات التي كانت تقدمها الفرقة، ومن أبرزها أوبريت العشرة الطيبة، وفيها لعب دور الحاكم "حاجي بابا حمص أخضر".
وعندما أنشأ يوسف وهبي فرقة رمسيس انضم لها، ولم يكتف بالتمثيل فقط مع الفرقة، إذ قام بتعريب عدد كبير من الروايات، وانتقل بعدها للعمل مع أكثر من فرقة، قبل العودة لفرقة نجيب الريحاني التي ظل يعمل بها حتى عام 1953، وانضم بعدها لفرقة إسماعيل يس.
ليلى
لا يعرف الكثيرون أن استيفان روستي كان من جيل الرواد الذين ساهموا في نشأة السينما المصرية، حيث أخرج أول فيلم روائي مصري "ليلى"، وكان لإخراجه هذا الفيلم قصة طريفة، فقد كان الفيلم يسمى في البداية يد الله، وكانت بطلة الفيلم ومنتجته عزيزة أمير اتفقت مع المخرج التركي وداد عرفي على إخراجه، وبعد شهور من بدء التصوير أعلن وداد عرفي أنه قد أتم فيلمه بنجاح، وعُرض الفيلم عرضًا خاصًا، لكن الحاضرين اصيبوا بخيبة أمل شديدة، فقد جاء الفيلم مشوهًا تمامًا، فقررت عزيزة أمير إسناد الأمر إلى استيفان روستي، الذي كان يتمتع بخبرة طيبة في مجال السينما، نظرًا لتعلمه بعضًا من هذا الفن في باريس، فأعاد استيفان روستي تصوير الفيلم، ولم يحتفظ من النسخة القديمة إلا بمشهدين من 11 مشهدًا، وتم تغيير الاسم من يد الله إلى ليلى، ولم يكتف استيفان روستي بالإخراج فقط، إذا شارك أيضا بالتمثيل فيه، وقدم دور رؤوف بك الذي يتولى العناية بليلى أثناء مرضها، ورعاية ولدها بعد موتها، وفي العام التالي أخرج فيلم البحر بيضحك، كما كتب له السيناريو وشارك في بطولته، بعدها توالت أعماله كمخرج، حتى بلغت حوالي عشرة أفلام، كان يشارك فيها بالتمثيل إلى جانب كتابته للسيناريو أو مشاركته فيه، ومن أهم تلك الأفلام صاحب السعادة كشكش بيه و عنتر أفندي و الورشة و ابن البلد، وكانت أخر أفلامه كمخرج أحلاهمعام 1945.
في صحة المفاجآت
نظرًا لتميز استيفان روستي في أدوار الشر، حصره المخرجون في هذا النمط من الأدوار، ولكنه لم يقدمها بشكل نمطي، حيث كان له أسلوبه الخاص الذي مزج فيه الشر بالكوميديا، فكان شريرًا خفيف الظل، وكان يضفي بصمة على كل دور يقدمه، حتى لو كان هذا الدور مشهدًا واحدًا، كما حدث في فيلم غزل البنات، حيث قدم دورًا صغيرًا، ولكنه لا ينسى، وقال فيه جملته الشهيرة " اشتغل يا حبيبي اشتغل"، وفي فيلم المليونير الذي جسد فيه شخصية "زكي بشكها"، كان دوره عبارة عن مشهد واحد، ولكنه لايزال يضحكنا حتى الآن، خاصة مع جملته " أنت تعرف تضحك على زكي بشكها.. أنت مش حمل زكي بشكها.. أنت مش قد زكي بشكها".
وقد وصل عدد الأفلام التي قدمها استيفان روستي لحوالي 120 فيلمًا، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر، فيلم سيدة القصر، والذي جسد فيه دور شفيق، وكان من أجمل أدواره، وفيلم سلامة الذي اشتهر فيه بجملته التي قالها لأم كلثوم " أبوس القدم وأبدي الندم على غلطتي في حق الغنم" وفيلم قطار الليل الذي قدم فيه دور أبو العز زعيم العصابة، وفيلم تمر حنة، وشخصية الوجيه رستم صاحب الجملة الشهيرة "في صحة المفاجآت"، وهناك أيضا فيلم حبيبي الأسمر الذي نتذكره دائما بجملة استيفان روستي " نشنت يا ناصح" عندما أصابه الفنان محمد توفيق برصاصة عن طريق الخطأ، ولا يمكن أن نتحدث عن أهم أعمال استيفان روستي، دون أن نذكر فيلم حب ودموع، الذي قام فيه بدور صاحب كباريه يستغل فتاة بريئة – التي قامت بدورها فاتن حمامة - لكي تعمل لديه، وقال لها جملته الشهيرة " الكونياك مشروب البنت المهذبة".
برع استيفان روستي أيضا في تجسيد شخصية اليهودي، وقدمها بشكل مختلف ومتميز عن كل من سبقوه في أداء هذه الشخصية، واتضح هذا من أدائه في الفيلمين اللذين جسد فيهما هذه الشخصية وهما حسن ومرقص وكوهينو آخر شقاوة.
دون جوان
بعيدًا عن الفن والتمثيل، عاش استيفان روستي في شبابه "دون جوان" كما يقولون، فكان يغدق على مظهره الكثير، ويتقن التعامل مع النساء، واقترن اسمه بالعديد من المغامرات العاطفية، ولكنه قطع كل علاقاته النسائية عندما قابل "ماريانا"، وهى فتاة إيطالية جميلة رآها استيفان روستي في إحدى حفلات النادي الإيطالي في بورتوفيق، وأحبها وتزوجها، وكان عمره حينها 47 عامًا.
كان حلم استيفان روستي أن يكون لديه أطفالا، وبالفعل أنجبت له زوجته طفلين، ولكنه فقدهما سريعًا، حيث توفى الأول بعد ولادته بأسابيع، أما الثاني فتوفى وعمره ثلاث سنوات، وتركت وفاة طفليه في داخله جرحًا كبيرًا، أما زوجته فلم تتحمل الصدمة، فعانت من حالات انهيار متعددة، وظلت على هذه الحالة سنوات، فكان استيفان روستي ينقلها من مصحة لآخرى، وعلى الرغم من مرضها فقد ظل وفيا لها، فلم يتركها أو يتزوج غيرها، وعاش حياته حزينا على زوجته المريضة، وأبنائه الذين فقدهم صغارًا.
وصفات شعبية
ظل استيفان روستي رغم تقدمه في السن وتجاوزه السبعين يقدم أفلامه السينمائية، وكان يتمتع بصحة جيدة، وقد اشتهر بوصفاته الشعبية لعلاج جميع الأمراض، فكان يتولى بنفسه علاج ما يشكو منه، ولا يثق في علاج الأطباء، وكان مواظبًا على رياضة المشي يوميًا حتى يحافظ على صحته. وفي يوم 12 مايو عام 1964 كان جالسًا في أحد المقاهي يلعب الطاولة مع أصدقائه، بعد مشاهدته العرض الأول لفيلمه آخر شقاوة، وأثناء جلوسه شعر بالآم مفاجئة في قلبه، وعلى الفور نقله أصدقائه للمستشفى اليوناني، وعندما فحصه الأطباء وجدوا انسدادًا في شرايين القلب، ونصحوا أصدقائه بنقله لمنزله القريب من المقهى، ولم تمض سوى ساعة واحدة فقط حتى فارق الحياة.
وعند وفاته لم يكن في بيته سوى 7 جنيهات، وشيك بمبلغ 150 جنيها يمثل الدفعة الأخيرة من فيلمه حكاية نص الليل، أما زوجته، فقد أصيبت بالجنون بعد أسبوع من رحيله، فتحملت نقابة الممثلين نفقات سفرها لعائلتها بنابولي، فلم يعد هناك من يرعاها بمصر بعد رحيل الزوج الوفي المخلص.