بتناوله موضوع المجازر الأرمنية، في فيلمه الأخير "الجرح، The Cut"، يكون المخرج الألماني ذو الأصول التركية " فاتح أكين" قد أضاف بعدًا جديدًا إلى رؤيته السينمائية، ويتمثل هذا البعد، في استخدم السينما كأداة لمساءلة حركة التاريخ وتفاعلاته. متجاوزًا بذلك كل الأسئلة الإشكالية والمضطربة حول الفيلم، وهي اسئلة لم تقتصر على جرأة الموضوع وحساسيته؛ حيث أن موضوع المجازر الأرمنية في بداية القرن الماضي، يصنف ضمن الخطوط الحمراء والمحرمات التي لا يمكن التطرق إليها في تركيا.
يحاول "أكين" في هذا الفيلم، إعادة تقييم الحقائق التاريخية سينمائيًا، وتحميلها بأبعاد فنية وإنسانية، توفر المساحة اللازمة من أجل التفاعل والنقاش، بعيدًا عن منطق الأحقاد وروح الانتقام والتشفي الذي تخلل سياسة الإنكار والتكابر حول تلك المجازر. الفيلم وإن بدا موضوع المأساة هاجسه الأساسي، إلا أنه يركز في أحد جوانبه على إشكالية الهوية وأزماتها المزمنة، وهو بذلك يكون متمما للمنطق والرؤية التي اتخذها "أكين" في مجمل أفلامه السابقة، تلك الرؤية التي تتضمن البحث في "كينونة الهوية" ومحدداتها عبر تناول علاقة الشرق بالغرب، ورصد حياة شخصيات "هامشية"، تنتمي إلى الجاليات المهاجرة في أوربا، حيث يتنازعها قيم المجتمعات الأصلية، التي حملها الآباء معهم من الشرق، مع قيم المجتمعات الغربية، التي تحاول الأجيال الشابة التآلف والتعايش معها.
ضمن هذه الرؤية المنفتحة والمتفاعلة، يأتي فيلم "أكين" التركي، عن الجرح الأرمني المفتوح منذ عام 1915، لا لكي يوازي بين جريمة القاتل وحقوق الضحية، فهو لا ينتصر لأحد على أحد، ولا يقدم الأيديولوجي على الفني، أو يحمله بخطاب سياسي منفعل، على العكس، هناك التزام موضوعي بجعل السينما ولغتها المركبة داخل الفيلم، المنفذ والمعبر عن حجم المسؤولية البشرية والإنسانية اتجاه كل المجازر التي حدثت وستحدث في المستقبل. وفق هذا السياق الإنساني والفني، شكل المخرج الإطار والتصور العام لشخصية "نازارت مانوغيان" الحداد الأرمني، -يؤدي دوره الممثل الفرنسي ذو الأصول الجزائرية طاهر رحيم- الذي يُنتزع من وسط عائلته، المكونة من زوجته وابنتاه "لوسيني وأرسيني" (دينا وزين فاخوري)، في مدينة ماردين، للخدمة في الجيش العثماني والعمل في السخرة وشق الطرقات، تنفيذا لقرار يجبر بموجبه كل شاب، على التجنيد في الحرب التي دخلتها الدولة العثمانية.
لكن وعلى الرغم من تركيزه على الجانب "الاستشراقي" في المشاهد الأولى للفيلم، إلا أن ذلك التوجه يتغير مع تفاعل الأحداث، حيث ينجو "نازارت" من الذبح، حين يكتفي اللص "التركي" السابق المكلف بقتله في إحداث جرح غائر في عنقه، ما سيتسبب في فقده القدرة على الكلام فيما بعد. لا يلبث اللص أن يساعده في الهرب من بين الجثث المقيدة والانضمام لمجموعة تركية متمردة. يبدأ بعدها "نازارت"، وبمفرده، رحلة البحث عن بناته، في سوريا ولبنان وكوبا وأمريكا.
تتحول رحلة البحث تلك، إلى رحلة الألم والفاجعة في الوعي الأرمني وتصوراتها. إنها رحلة الذات إلى الذات، بعد اقتران الهوية العامة "بعقدة الضحية" وهاجس الإبادة والموت، وضياع حقوق ضحايا الذين لم يظفروا سوى بمقابر جماعية مجهولة الشواهد والأسماء والتواريخ.
وبقدر ما يحاول الفيلم الابتعاد عن توجيه أي رسالة سياسية، ويجوب في المنطقة الدقيقة بحساسيتها التاريخية، بين الأرمن والأتراك، فأنه يخلو من الإدانة الصريحة واللغة الانفعالية، فالمأساة الشخصية حاضرة في دلالتها على الفاجعة والمأساة العامة، وهي لا تطلب ولا تسعى للثأر أو الضغينة، لكنها تؤكد على نقد التطرف العرقي والديني، بكل أنواعه وأشكاله، وتأثيراته العنيفة على البنى الاجتماعية. إنها محاولة من "أكين" لتخليص جنبات العلاقة التركية الأرمنية، من جبال الجليد و"الحقد"، عبر التركيز على إعطاء حكاية الفيلم أبعادا إنسانية رحبة، تخفف ضغوط النزعة القومية و"فاشيتها"، لذا نراه ينغمس في تفاصيل الواقع، إلى حدود إلتقاط شاعريته، وتكثيف تلك التفاصيل في صور سينمائية مشحونة برؤية تلامس العمق والجوهر الإنساني، حتى تكاد أن تكون، تلك الصور، شهادات حية عن مأساة الأرمن، وقد مضى عليها قرابة قرن من الزمن.
استطاع "أكين" خلال 138 دقيقة، وهي مدة الفيلم، أن يعطي البعد الملحمي لشخصية "نازارت"، بتضمين سيرته ورحلته القاسية، الرسالة الحقيقية للفن، وهي الإصرار على الانتصار ضد القدر، رغم المحدد الإنساني والحياتي، جرى ذلك بتناغم وانسجام في تحويل الواقعي إلى الفني، والاشتغال على الذاكرة الجريحة، وإعادة تجديد اللحظات الوجدانية الملتهبة، على نمط التراجيديات القديمة. أضاف إليها المخرج سحرًا خاصًا، بجعل الهم الجمالي يتوازن مع الهم الإنساني العام وسرده الحكائي داخل الفيلم. نكتشف ذلك من خلال قلق الترحال والبحث، لتصبح في إثرها، تفاصيل الحياة اليومية، حتى الكوميدية منها، إلى محرك لذاكرة الفواجع ومكامن المأساة.
تلك المقاربة نتلمسها وبشكل واضح في أحد مشاهد الفيلم، حين يجد البطل الأخرس "نازارت" نفسه أمام شاشة سينمائية في مدينة حلب، يعرض فيلم " The Kid" إنتاج 1921 لـ" تشارلي تشابلن"، ورغم التهريج وضحك المتفرجين، إلا أن قصة الطفل اللقيط تهز "نازارت" وتغمره بالحزن والأسى.
عرض فيلم "The Cut" الذي يعتبر الأول من نوعه لمخرج من أصول تركية، يتناول موضوع المجازر الأرمنية، في 24 صالة عرض بمدن جامعية في تركيا، ولم تتدخل الحكومة التركية في التضيق على عرضه، وهو ما يكشف بأن التطرق إلى موضوع المجازر الأرمنية بات ممكنا، بحسب المخرج، بعد أن ارتكن لفترة طويلة في خانة المحرمات التي لا يجب التطرق إليها في تركيا. وقد ذكرت "وكالة الأنباء الفرنسية" أن ردود فعل الأتراك تباينت إزاء عرض الفيلم، بين من تساءل عن دوافع المخرج ومن حرضه على إنجاز الفيلم، وبين من سانده وأحب الفيلم.