إذا كانت ذاكرتك قوية بما فيه الكفاية، فأنت بالتأكيد تتذكر صيف عام 2003، أي منذ ثلاثة عشر عامًا بالضبط، حيث استطاع وقتها فيلم واحد أن يحتل دائرة الضوء لشهور طويلة: حوارات تليفزيونية، لقاءات ومؤتمرات صحافية، عشرات بل قل مئات المقالات النقدية وغير النقدية المملوءة إعجابًا وتقديرًا بأول فيلم روائي طويل للمخرج هاني خليفة والكاتب تامر حبيب، وهو قطعًا ( سهر الليالي) الذي كان جزء كبير من هذا الاهتمام حوله هو ابتعاده التام عن هيمنة نجوم الكوميديا على نوعية الأفلام المنتجة حتى كادت السينما لا تنتج سواها وقتئذ.
وفيما استمر تامر حبيب في الكتابة حتى بات من الأسماء التي تتمتع بسمعة طيبة في الأوساط الفنية بعد رصيد جيد من الأفلام والمسلسلات التليفزيونية كان آخرها مسلسل ( طريقي) الذي عرض في شهر رمضان، دخل هاني خليفة بالمقابل في صيام طويل عن العمل السينمائي طيلة الثلاث عشر عامًا الماضية، وكلما نُشرت أخبار عن شروعه في العمل على فيلم سينمائي جديد، ما تلبث أن تنتهي الأمور دومًا إلى لا شيء، وطيلة هذه السنين لم يقدم سوى مسلسل تليفزيوني واحد وهو ( الجامعة)، حتى قرر أخيرًا أن ينهي حالة الصوم السينمائي هذه ليعود أخيرًا بثاني فيلم روائي طويل له بعد كل هذه السنوات الفائتة، لذا، وبعد وصول ( سكر مُر) إلى صالات العرض السينمائي بالتزامن مع حلول عيد الفطر، على ماذا أفطرنا مع هاني بعد كل هذه الفترة؟
يبدو على هاني خليفة في فيلمه الثاني أنه كان يحاول البحث مع السيناريست محمد عبدالمعطي عن صيغة مختلفة فنيًا وسرديًا عن فيلم (سهر الليالي)، وكان يبدو للعيان أن النجاح الأسطوري للفيلم الأول كان هاجسًا ملحًا عليه وهو يعمل على هذا الفيلم لكي يثبت أنه يستطيع أن يتفوق على نجاح الفيلم الأول، لكن ما لم يكن بحسبان خليفة وعبد المعطي أنهما أوقعا أنفسهما دون أن يدريا في سلسلة جهنمية ولا نهائية من الفخاخ.
على الرغم من قيام الفيلم على مجموعة كبيرة من الثنائيات العاطفية المتشابكة على غرار فيلم (سهر الليالي)، إلا أنه يقرر أن يختار طريقة سرد غير خطية تمكنه من التنقل بحرية كبيرة جيئة وذهابًا بين الماضي والحاضر خلال فترة تبلغ 5 أو 6 سنوات، وبدلًا من تحول هذه الطريقة إلى شكل جذاب ومختلف لحكي هذه القصة المركبة على غرار أفلام أخرى لجئت لهذا الحل الفني، صار الوضع أشبه بالسير في ممر طويل مغمور بشباك العنكبوت اللزجة، خاصة مع الوضع في الاعتبار أن الحكاية يحركها في الأساس عشر شخصيات يدخلون في أنماط مختلفة ومتبدلة باستمرار من الصداقات وعلاقات الحب والزواج، مما يحول الأسلوب السردي المختار من خليفة وعبد المعطي إلى نقمة تنزل على رأس المشاهد، بل إن تحديد العلاقات في Game Of Thrones أيسر من تحديد العلاقات في (سكر مُر)، هل كان الأمر يحتاج - ربما - إلى شخصيات أقل؟
إن هذا المنهج اللاخطي لا يعطي الفرصة من الأساس للمشاهد لكي يكوِّن انطباعات أو حتى مشاعر حيال الشخصيات العشرة التي يراقب تطوراتها القافزة التي لا يمكن الإمساك بمنطق واضح لها، ناهيك عن إيجاد أي تسلسل لها من الأصل، كل هذا بفضل غابة الـ Flash-back وFlash-Forward ذات الأشجار المتشابكة التي يقع فيها المشاهد وتجعله لا يتبين طريقه أمامه، وكلما حاولت أن تكون انطباعًا أو حتى مجرد وجهة نظر حول شخصية من الشخصيات، سرعان ما تتبخر بدون عودة، لأن كل شيء يأتي مبتورًا بغلظة كقطع بسكين حاد.
وحتى مع حدوث أي تغيرات مهمة في حياة الشخصيات، فلابد أن تأتي هذه التغيرات عبر مونولوج طويل أو ديالوج متراشق ذو نزعة "مسلسلاتية" بين طرفي العلاقة كمثل كرة البينج بونج تقفز في الهواء على نحو طائش، أو حتى عبر تفاصيل قُتلت استهلاكًا، كأن يسمع شخص إلى آذان الفجر بخشوع وندم شديدين بعد أن مارس لتوه الجنس مع امرأة التقاها لتوه، والخيار الأسوأ والأكثر شيوعًا في الفيلم هو الانتقال الفوري والمجاني من النقيض للنقيض بدون منطق ملموس، كأن تتحول شخصية تقضي جل وقتها في الملاهي الليلية إلى شخصية متدينة تواظب على الصلاة في المسجد.
ستشعر طوال ساعتي عرض الفيلم أن هناك تاريخًا ما يقف وراء جميع شخوص الفيلم وعلاقاتها ببعضها البعض، لكننا مع الأسف نبحث عنه عبثًا ولا نراه، بل حتى نكتشف أن هناك روابط تنشأ فجأة، وروابط أخرى تنتهي فجأة، وروابط ثالثة نكتشف أنها كانت موجودة لكن لا أحد كان يفكر في التطرق لها أو حتى تنبيهنا إلى تاريخها أو ظروف نشأتها وكأنها نبتت على نحو شيطاني، وربما كان أكثر مثال متطرف على ذلك هو علاقة الصداقة التي تجمع منذ زمن - دون أن نعرف متى وأين وكيف - بين حسام ( هيثم أحمد زكي) وسليم ( أحمد الفيشاوي) ودون أن نعرف حتى ما الذي يجمعهما كأصدقاء مع التنافر الشديد بين شخصياتهما وعدم وجود تاريخ مشترك بينهما يمكن الرجوع إليه.
أنا لا أقول أن الأسلوب الفني الذي اختاره هاني خليفة خاطيء في العموم، لكن العبرة الأساسية وراء حسن أو سوء استغلال هذا الأسلوب هي كيفية ترويضه على النحو الذي لا يسمح للحكاية بكافة تشعباتها بالخروج عن السيطرة، وأن تعرف من أين تبدأ وإلى أين تنتهي، أن يكون هناك خارطة واضحة لهذا التداعي الحر للحكاية، إنما ما رأيناه في هذا الفيلم ينم عن عدم وجود تخطيط، أو وجود تخطيط غير مدروس بتأني للحكاية.
ما يضاعف أزمات الفيلم هو امتداد واتساع المدة الزمنية التي تتحرك فيها الأحداث، وهو ما يصعب مهمة المتابعة أكثر مما قد يُحتمل، لاحظ أن أحداث الفيلم تقع على مدار ما يقرب من 5 أو 6 سنوات كما سبق الذكر أعلاه، الأمر أشبه بمشاهدة فيلم Watchmen بدون قراءة الرواية المصورة الأصلية المقتبس عنها الفيلم والتي كتبها الآن مور، فإذا شاهدت الفيلم على حدة فلن تفهم شيئًا على الأرجح، وعندما تقرأ الرواية ستكتشف أن هناك تاريخ كامل كان يفترض أن تعرفه لكن مخرج الفيلم أغفله عنك بالكلية.
وبجوار كل ذلك، يضيف عبدالمعطي إلى قصته هذه خطًا موازيًا يحاول من خلاله أن ينفذنا نحو الشأن العام خلال فترة الثورة وما بعدها، وأهم الأحداث الحساسة التي جرت خلال هذه الفترة، لكن يبدو أنها لم تضف أي تأثير أو أي قيمة أدبية تذكر على عالم الفيلم، حتى بمنطق أن ما يحدث هو تشكيل للإطار الخارجي للحكاية أو ما يقع خارج "الفقَّاعة البرجوازية" التي يحيا جميعهم بداخلها.
ما الذي يبقى من الفيلم إذن؟ العلاقات العاطفية، اطمئن، فلن تجد الأمر مختلفًا عما تظن، مجرد طنطنات ونماذج محفوظة من هراءات العلاقات العاطفية آتية على الأرجح من صفحات الاستشارات العاطفية دون أدنى محاولة لمعالجتها دراميًا، وبدون الحد الأدنى الكافي من البناء والتأسيس، فتبدأ وتتطور وتنتهي كل أو معظم العلاقات على نحو يحلو لمزاج الكاتب أكثر مما يتطلبه المجهود الفعلي في الكتابة، وحتى تعرف عمق الأزمة، شاهد تأسيس العلاقات الزوجية في أفلام مثل Revolutionary Road أو In The Bedroom.
كنت أشعر في بالي أن هاني خليفة قد عاد بهذا الفيلم بعد هذه السنوات الطويلة من الغياب عن السينما بسبب رغبته في البقاء في السوق السينمائي المصري، وهذا ليس بعيب إطلاقًا ولا أقول هذا حتى بدافع من السخرية، فمن حق المبدع أن يقيم المواءمات التي تروق له بين ما يرغب في تقديمه وبين ما يمكن تقديمه بالفعل، وربما حاول هاني أن يصنع هذه المواءمة من خلال (سكر مُر)، لكن لم يبقى لنا من أثر هذه التجربة في حلوقنا سوى غرابة النكهة، ومرارة السُكر.