​"أبجدية".. عن صناعة الخوف والحب

  • مقال
  • 01:26 صباحًا - 19 سبتمبر 2015
  • 1 صورة



لقطة من الفيلم

"البشر ثلاثة صنوف، أولئك الذين لا يتحركون، وهؤلاء الذين لديهم القابلية للحركة، وآخرون هم مَنْ يتحركون"
بنجامين فرانكلين

بهذه المقولة انتهى الفيلم التسجيلي "أبجدية أو Alphabet" للمخرج النمساوي إروين فاجينهوفر Erwin Wagenhofer، إنتاج عام 2013، والذي امتد قرابة الساعتين داخل ساحة معهد جوته في وسط القاهرة في خضم فعاليات أسبوع جوته للأفلام.

فيلم مليء بالأفكار، نستمع فيه للغات كثيرة ونرى فيه أشخاصـًا حاولوا أن يخرجوا عن المعتاد الذي رسمه المجتمع خلال سنوات وسنوات.

من الإنجليزية للصينية للألمانية فالفرنسية ثم البرتغالية، نتجول مع الفيلم الذي يناقش قضية التعليم في دول تتمتع باقتصاد متقدم مقارنة بدول العالم الثالث. وعلى الرغم من أن هذه الاقتصادات ليست ضعيفـة، إلا أن نظم التعليم فيها لم تكن هي الأفضل من وجهة نظر مخرج الفيلم وكاتبه.

من الصين، حيث أكثر من مليار شخص يقطنون أرضـــًا قد لا تسعهم، نقترب من نظام التعليم الذي يجعل من الطلاب قوالب، يفقدون بمرور الوقت قيمة التفكير المتمايز، الجميع يفكر بنفس الطريقة. مساحة الإبداع محدودة وتقل كلما تقدم الطالب في العمر، ليس لقلة قدراته، ولكن بسبب تأطير نظام التعليم ومحدودية المناهج التي تُعطى للتلاميذ.

ذُكر في الفيلم إحصائية مثيرة للاهتمام حول علاقة الطلاب بالإبداع والمرحلة العمرية، فأشارت الدراسة أن نسب نجاح الأطفال في اختبارات الإبداع والعبقرية من سن 3 لــ 5 سنوات وصلت لــ 98٪، ومع تكرار الاختبار لنفس الشريحة من الطلاب بعد وصول عمرهم لثمان سنوات تقلصت النسبة بشكل أكبر لتصل إلى ما يقرب من 40٪، ثم تصبح بعد ذلك مع نفس العينة من الطلبة ما يقرب من 2٪ مع الوصول لسن 15 عامـــًا.

ينتقل بنا الفيلم بعد ذلك لأوروبا ما بين ألمانيا والبرتغال وفرنسا، ليصل لنتيجة تكاد تكون متشابهة حول النظم التعليمية التي تقتل في كثير من الآحيان لدى المتعلمين الحس الإبداعي، وكم من قصص يمكن لكل واحد منا أن يرويها عن دراسته البائسة والتي افتقد فيها متعته في الرسم أو الموسيقى أو لعب رياضة معينة. وهذا ما طرحه أحد الضيوف في الفيلم والذي عمل لمدة أكثر من نصف قرن في مجال التعليم الحر Learning without school عن طريق منح المساحات الحرة للأطفال للرسم دون أي قيود، وكم كان عجيبــًا أن نرى أرشيف الرسومات التي يحتفظ بها الرجل في مكان كبير منذ عقود، وكيف تحولت الرسومات بمرور الزمن من أعمال مبهجة مفعمة بالحياة والابتكار في الخمسينات مثلا ثم بدأت تتحول بعد ذلك مع السبعينات، فأصبحت الرسومات أكثر كآبة وتشابهــًا، مساحة الإبداع تقلصت وبات الأطفال يستلهمون أو يقتبسون نفس الأفكار من بعضهم البعض. وهذا يثير تساؤلاً آخر حول مدى تأثير البيئة أيضـــًا على المتعلمين، وكيف أن التكنولوجيا أحيانــًا تعيق الخيال من التحرر، والخروج إلى عوالم أخرى غير مُكبَلة بالاتجاه العام في المجتمع.

المُنافسة، كم هي كلمة مزعجة أحيانــًا عندما تصبح هي المبدأ الحاكم لكل شيء، فيتحول الأمر بمرور الوقت لصراع بدلاً من تكامل. هذا ما طرحه الفيلم أيضــًا حول المسألة التي تنشأ من خلال نظم التعليم غير المرنة، فيكون التقييم في النهاية وفق الدرجات التي تصنع الترتيب وتصنع شخصــًا ما كي يعتلي مرتبة التفوق. في حين أن هذه المنافسة غير حقيقية؛ لأنها تقوم على معايير جامدة مصنوعة من قِبل مسئولين عن النظام التعليمي يفكرون بطريقة ومنهجية واحدة تتسم بالجمود. في نهاية المطاف، تصبح الشهادات هي المعيار الأول للنجاح.

هذا الأمر يثير في ذهني هذه الفكرة حول سوق العمل أيضــًا الذي يخلق منا قوالب وأنماط واحدة. فبعد التخرج يجب أن نُجَهِز السيرة الذاتية بشكل ما حتى نقدمها لنفس الشركات التي تضع نفس المعايير تقريبــًا حتي يتم قبولك، والتي إن لم تنصاع لمعاييرها حتى لو كنت متميزًا للغاية لن يكون القبول من حظك.

إذًا منذ الصغر وحتى نهاية رحلة العمل، نصبح تروسـًا في ماكينة كبيرة صنعتها منظومة التعليم والعمل الرأسماليين.

اللعب واللهو، قيمة حقيقية يفتقدها التعليم، هنا يرى أحد ضيوف الفيلم أن قيمة اللعب في حد ذاتها يجب أن يتم التعامل معها بجدية شديدة. فاللهو يحول طاقات الطفل من مجرد رغبة إلى عادة، وتصبح هذه الطاقة نشاطــًا يفعله الطفل ببالغ السعادة؛ لأنه غير مُقيد بأي شيء سوى متعته الذاتية وحبه لفعل هذا الشيء.

وهذا يثير تساؤلاً جديدًا حول مدى استمتاعنا بما نفعل منذ دخولنا المدرسة ثم تخرجنا واتجاهنا لسوق العمل، حتى لو كان العمل الذي تقوم به هو العمل الذي تحبه، لكنك لست مُستمتِعــًا به تمامــًا؛ لأن قيود الوظيفة وقواعدها تمنعك من فعل الشيء غير المألوف.

وكم منا في لحظات عاش هذه الثنائية بين الرحيل عن العمل وبدء شيء يحبه تمامــًا دون أي قيود. فيصل بك المطاف إلى خيارين لا ثالث لهما: إما أن تدفن رأسك في الرمل وتبقى في العمل؛ لأنك غير قادر على المغامرة، أو بمعنى أدق المجتمع سيطر على أفكارك فجعلك غير قادر على مواجهته. أو أن تضرب عرض الحائط بكل الأفكار المُسبَقة، وفتح الباب لطاقة جديدة وأفكار أكثر إبداعــًا تجعلك سعيدًا بما تفعل، حتى لو كان دخلك محدودًا.

الهوايات، يسلط الفيلم الضوء على هذه الفكرة بوضوح شديد. هل لديك هواية منذ الصغر؟ نعم، ما هي؟ لا أعرف!! لماذا؟ ربما لأنني لا أملك الوقت حتى؛ كي أفكر فيما أحب أن أفعل؛ لأنني جزء من دوامة التعليم منذ الصغر، ولم أجد هذه المساحة لاكتشاف موهبتي، و بالطبع لن يكتشفها أحد معي، واكتشافها في عمر متأخر لا يسمح لي بممارسة ما أهوى.

ذكر الفيلم مثالين مُميزين لشابين خرجا عن نطاق المألوف فيما يتعلق بنظم القولبة التعليمية، شخص مصاب بمتلازمة داون Down Syndrome أو ما يطلق عليه في الأوساط غير العلمية (البله المغولي). منذ صغره يشعر بأنه مختلف عن زملائه، ومن حوله يجعلونه يشعر بأنه "غبي". هذا الشخص نجح في أن يكون أول شخص في العالم حاصل على درجة جامعية رغم أنه وفق المعايير التعليمية لا يصلح.

الشخص الآخر لم يدخل أي مدرسة طول حياته، ولم يخض أي اختبار، ولم يتقدم لأي وظيفة. تعلم القراءة في سن سبع سنوات، لكنه أتقن العديد من اللغات بعد ذلك. لم يدرس مناهج مدرسية، لكنه كان يقرأ في موسوعات المعارف الحرة مع والديه. عازف جيتار وصانع له، يعطي محاضرات في الجامعات التي لم تطأها قدمه للدراسة حول التعليم الحر غير المدرسي.

الفيلم في مجمله مهم من أجل فتح آفاق مُتعلقة بنظم التعليم حول العالم. ُمكتظ بالأفكار المُهمة التي تجعل ذهنك طوال الساعتين مُتقدًا من كثرة التفكير والتساؤل. إلا أنه يعيبه شيئين: الأول هو بطء الأحداث وطريقة السرد، كان المخرج بطيئــًا في سرده وبدا عليه في بعض المحاور التشتت، لا يعرف كيف يربط أجزاء الفيلم ببعضها، مما قد يصيب المشاهد بالملل، رغم زخم الأفكار. كذلك لم تكن الموسيقى بالنسبة للمخرج عاملاً مؤثرًا في الفيلم مما أصابه بالجمود في ظل قوة الأفكار التي يناقشها، مما يصيب المشاهد أيضــًا بالملل.

الشيء الثاني على مستوى الصورة، كادرات المخرج كانت ثابتة، لا حركة فيها، لم يحدث طوال الفيلم أن رأيتُ الكاميرا تتحرك يمينــًا أو يسارًا، لأعلى أو لأسفل، لم تتحرك الكاميرا مع الضيوف إلا في مشاهد محدودة للغاية، كبل المخرج الكاميرا، كان بخيلاً في امتاع المشاهد بصريــًا، وهذا يعود في رأيي إلى أن المخرج هو نفسه كاتب السيناريو وهو كذلك مصور الفيلم. فقوة المخرج في طرح أفكاره لم تجعل الصورة بنفس غنى الأفكار. الصورة كانت كلاسيكية لدرجة الجمود.

إلا أنني في النهاية أظنه فيلمــًا مهمــًا للغاية يجب مشاهدته إذا ما كنت ترغب في حشد عقلك بالأفكار الجيدة. فالفيلم يثير داخل كل منا الحافز نحو الخروج من الصندوق، وتحويله إلى أي شيء آخر، لماذا أصلًا هو صندوق؟ لماذا لم يكن أي شيء آخر؟

الفيلم يدعو للثورة على القولبة المُمنهجة، ويرى صنوف الناس في قدرتهم على الحركة من عدمها، وحب ما يفعلون أو الخوف منه!

وصلات



تعليقات