منذ فيلمها ( قص ولصق) الذي صدر في عام 2007، احتاجت الكاتبة والمخرجة هالة خليل إلى ما يقرب من تسع سنوات كاملة حتى تعود للسينما بحكاية جديدة تحمل نَفَسُها، وهو ما سعت إليه في فيلمها الروائي الثالث ( نوّارة) الذي يعود بالزمن للوراء إلى السنة الأولى من عمر ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولكن ليس لكي تحكي عن الثورة نفسها، ولكن عما كان ينتظره الجميع من الثورة في المقام الأول سواء إيجابًا من وجهة نظر نوّارة وزوجها وجدتها، أو سلبًا من وجهة نظر النائب السابق أسامة وأسرته.
هذه النقطة بالذات هي ما جعلت رؤية (نوّارة) للثورة أو لسنتها الأولى بالذات أكثر نضجًا وهدوء وتمهلًا وعمقًا وأقل نزوعًا للنزعة الحماسية الزائدة بخلاف كافة الأفلام السابقة التي صدرت بعد الثورة مباشرة وحملت في طياتها حسًا احتفائيًا بالحدث - وهو حس له ما يبرره على الصعيد النفسي بعيدًا عن التقييم الفني لهذه الأفلام - لذلك كان قرارها بالانتظار لفترة زمنية كافية حتى تستطيع تقييم هذه الفترة الزمنية بتجرد تام قرارًا موفقًا.
يتجرد الفيلم تمامًا من الانحياز نحو أي من وجهتي النظر السائدتين حول الثورة (مع/ضد) حتى لا يتحول الفيلم لعريضة سياسية دعائية، وينجح في النفاد من الوقوع في فخ الحماس الشديد واﻷدلجة - أو حمل لصبغة أيدولوجية - في التناول الذي كان كفيلًا بأن يُفقد الفيلم شطرًا ليس بالقليل من حسه الدرامي، وهو ما يميزه عن سائر اﻷعمال السابقة التي تعرضت للثورة.
وحتى مع تواجد أحداث ما بعد الثورة بشكل كامل على شريط الصوت عبر موجات الراديو وبرامج التليفزيون والمحادثات اليومية بين اﻷبطال واﻷغاني ذات الطابع الثوري، إلا أن هالة خليل نجحت في دمجها بنجاح مع دراما الفيلم ليسير الشأن العام قدمًا بقدم مع الهموم الشخصية ﻷبطاله، وهذه النقطة بالذات كانت متوازنة وفي محلها تمامًا على النقيض مما فعله المخرج هاني خليفة في فيلمه ( سكر مُر).
ومرة أخرى بعد (قص ولصق)، تسيطر من جديد فكرة الانتظار لما قد يأتي على أبطال أفلامها، ودومًا ما تكون الآمال المنشودة هي في حد ذاتها آمال بسيطة تتسق مع التطلعات العامة لأبناء الطبقات الوسطى والدنيا (الزواج- الحصول على مسكن- امتلاك المال اللازم...الخ)، بما يذكرني ربما ببساطة تطلعات شخصية الكولونيل في الرواية القصيرة (ليس لدى الكونوليل من يكاتبه) للكاتب الكولومبي الراحل جابرييل جارسيا ماركيز الذي ظل يمني نفسه لسنوات بوصول راتبه التقاعدي وفوز الديك الذي يقوم بتربيته في مصارعة الديكة بالرغم من الفقر الشديد الذي يعيش فيه.
كما تحمل تيمة الانتظار هنا شكلًا مركبًا عن الفيلم السابق، وهو تركيب يأتي بشكل طبيعي من التداخل الكبير بين الشأن العام والهموم الشخصية ﻷبطال الفيلم، لتصير هناك آمال على المدى القريب (العثور على مسكن يجمع نوارة وعلي اللذان عقد قرانهما) وآمال على المدى البعيد (الخروج من الفقر بعد توارد الأخبار عن توزيع اﻷموال المنهوبة من قبل مبارك وعائلته) حتى لو زالت المسافة بينهما في بعض اﻷوقات، اﻷمر الذي تترجمه دومًا منة شلبي دومًا في أدائها لشخصية نوارة من خلال شبح الابتسامة الذي يلوح على وجهها حتى لو كانت تقوم بعمل روتيني مثل حمل المياه للمنزل أو ركوب المواصلات.
هذه المرة لا تحصرنا هالة خليل مع جانب واحد فقط كالفيلم السابق، وإنما ترينا وجهي العملة في مواجهة إحداهما اﻵخر، وتعمل طوال الوقت على عقد المقارنات بصريًا بين حالتي الفقر والغنى، على أساس أن البطلة الرئيسية نوارة (منة شلبي) تملك القدرة بحكم عملها على النفاذ للجانب اﻵخر الذي لا يراه الغالبية العظمى من أبناء الطبقة المعدمة التي تنتمي إليها.
لا تغفل هالة خليل أيضًا مد خط عقد المقارنة البصرية على استقامته، فهى لا تقتصر على منزل نوارة وفيلا عائلة أسامة الذي تعمل لديه، وإنما يمتد إلى أسلوب الحياة ونوعية الحوارات السياسية الدائرة والاستجابة لها ونوعيات اﻷطعمة وتفاصيل الملبس (لاحظ مثلًا الطريقة التي ترتدي بها نوارة ملابس عصرية تحت عباءة سوداء، وقارن ذلك بملابس القاطنين في منطقة الفيلات).
لكني أعتقد أن هالة خليل كانت في حاجة ماسة ﻷن تتوقف قبل نهاية الخط بقليل، فالمقارنة البصرية كانت أكثر من كافية ليدرك المشاهد العادي الفروق العديدة بين حياة نوارة وحياة من تعمل لديهم، ولم تكن بحاجة للتأكيد على هذه المقارنة حواريًا مما جعل الفكرة مباشرة في بعض المشاهد -وهو من مآخذي على الفيلم- وتحويلها لتراشق حواري حول "هما" و"إحنا".
مأخذ آخر يكمن في المشهد الذي يظهر من خلاله عباس أبو الحسن، فهو مشهد زاعق جدًا على خلاف طبيعة الفيلم الهادئة خاصة مع طريقة أدائه الجامدة التي لا يغيرها منذ "عجبًا لكم أيها المصريون!" وانتهاءً بصراخه في عرض الشارع "إحنا أسياد البلد! إحنا أسياد البلد!"، كما شعرت أن هذا التتابع هو مجرد حيلة درامية لكي ينبني عليها التتابع اﻷخير من الفيلم فقط.
لكن بعيدًا عن هذه الملاحظات القليلة، إلا أنني سعدت للغاية بعودة هالة خليل بعد كل هذا الغياب، ومخاطرتها بالعودة من خلال موضوع محمل بالأفخاخ في تناوله ونجاحها في تخطي معظمها.