في محاجته الشهيرة عن طبيعة الفن، يقول الكاتب الروائي والمسرحي اﻷيرلندي أوسكار وايلد صاحب رواية "صورة دوريان جراي": "ليس بين الكتب كتب أخلاقية وكتب منافية للأخلاق، فالكتب إما جميلة التأليف وإما رديئة. تلك هي خلاصة القول"، وانطلاقًا من تلك العبارة، أحب أن أمد الخط على كامل استقامته ﻷقول إني لا اعترف -شخصيًا- بالتقسيمات المتعسفة التي تصنف الفنون بين فني أو تجاري، رائج "Mainstream" أو مستقل، فهذه النقسيمات تدفع المتلقي دومًا وأبدًا إلى بناء آراء مسبقة ومنحازة قد تتجاوز التقييم المنصف للعمل الفني بذاته على نحو متفرد، مع الوضع في اعتباره نوعية الجمهور المستهدف لهذا العمل الفني وما يستتبعه لما يجب أن يكون عليه شكل العمل الفني وطريقة تقديمه، كما أنها تفرض نوعًا ما من السلطة على ما يستحب أن يكون فنًا وما لا يكون.
حسنًا، ما علاقة كل ما سبق من حديث بفيلم "الماء والخضرة والوجه الحسن"؟ منذ اللحظة اﻷولى التي أعلن فيها الكاتب والمخرج يسري نصر الله عن مشروعه الجديد مع المنتج أحمد السبكي والسيناريست أحمد عبدالله، انشغل أغلب -إن لم يكن جميع- النقاد والمعلقون والمهتمون بالسينما إلى أقصى حد بنفس ثنائية "الفني/التجاري" المعتادة والمملة من فرط استدعائها مع كل عمل يحاول تجاوز هذه الثنائية، أو على اﻷقل لا يضعها في اعتباره كثيرًا، لذا فمن الواجب من وجهة نظري تفادي الخوض فيها مجددًا، على اﻷقل في هذه المقالة، والحديث عن التجربة نفسها بدون قيود هذه التقسيمات.
لمن شاهد جميع أفلام يسري نصر الله الفائتة، سيلاحظ أن الفيلم الجديد يحمل عدة تيمات مشتركة مع هذه اﻷفلام ولا يبتعد كثيرًا عن عالمها وعن عالم يسري نفسه: ستجد البيئة الريفية هي المسرح الرئيسي للأحداث كما كان في سرقات صيفية، والعلاقات العائلية المتشابكة والمعقدة الخاصة بـمرسيدس وطريقة رصد نمط الحياة لدى الطبقات الشعبية في المدينة وحتى قصص الحب المتعددة في باب الشمس بجزئيه اﻷول والثاني، وفي المقابل يتخلى تمامًا عن الرؤية النخبوية التي سيطرت على أفلامه الثلاثة السابقة: جنينة اﻷسماك وإحكي يا شهرزاد وبعد الموقعة.
ويبدو أن نصر الله قد تلقى درسًا قاسيًا من تجربته السابقة "بعد الموقعة"، والذي أشرت في أكثر من مناسبة عن كونه فيلمًا متعاليًا للغاية ينظر لكل شيء من برج عاجي مع قدر من التسطيح الفكري الذي لا يليق بما قدمه نصر الله في أفلام سابقة، فيقرر هذه المرة أن يكون فيلمه بالكامل من نفس منظور أبطاله اﻷفقي ونفس مستواهم الطبقي ونفس رؤيتهم للحياة، ناهيك عن ابتعاده التام عن القاهرة بمركزيتها وعزها وسيفها لينطلق من الريف المنسي، وأن يصير المحرك الدرامي هنا ليس القضايا الوجودية الكبرى أو الشأن السياسي العام، وإنما من الاحتياجات اﻷولية واﻷساسية للبشر: معدة دافئة بلذائذ الطعام وأطايبه، وقلب رقيق ينشد المحبة، ورغبات مستعرة تبحث عن اﻹشباع.
ومن أجل وضع إطار تنطلق منه هذه الدوافع اﻷولية، يختار نصر الله وعبدالله أن تدور أغلب أحداث الفيلم خلال حفل زفاف ريفي في مركز بلقاس التابع لمدينة المنصورة، لينسج خلال هذا الفيلم شبكة من علاقات الحب المتداخلة مع أوقات المرح التي يخوضها المدعوين وأوقات العمل على طبخ الطعام من قبل "يحيى" وأبنائه باﻹضافة إلى تذوقه، مما يضاعف من مقدار التلاحم بين اﻷبطال بسبب طبيعة الحدث وبسبب الحميمية الكامنة في لحظات إعداد الطعام وتناوله مع جماعة.
لمن شاهد جميع أفلام يسري نصر الله السابقة سيرى مدى أهمية مشاهد التجمع حول الطعام أو تناوله إو إعداده، والتي كانت دومًا ما كانت تمثل مدخلًا مهمًا لفهم ما لا يُدرك عن الشخصيات من خلال هذا الفعل الغريزي اليومي باﻹضافة إلى زيادة التلاحم كما سبق القول، حيث يستتبع ذلك تكشفًا دراميًا تدريجيًا لدوافع اﻷبطال، فمع النصف الثاني ينقشع الغموض تمامًا عن حقيقة الارتباط شبه الرسمي الذي يجمع بين رفعت "باسم سمرة" وكريمة "منة شلبي" ومشاعرهم الحقيقية نحو أشخاص آخرين، وهو ما لم يكن ليتبدى على هذا النحو سوى في مناسبة كهذه عنوانها الرئيسي في اﻷساس هو تتويج لعلاقة عاطفية من خلال الزواج، حيث كان كل من الأبطال ينخرط بعيدًا عنها في مشاغله الحياتية اﻵخرى ولا تتاح له الفرصة الكافية للتعبير عما يشعر به.
بجانب الوظيفة التكشفية، تمثل مشاهد تحضير الطعام ترمومترًا لمدى تأجج العاطفة أو الرغبة الجنسية، ونصر الله لا يحاول إخفاء ذلك، بل يفعل كل ما في وسعه للتأكيد عليه سواء بصريًا أو وظيفيًا، لاحظ دلالة تقطيع حسنية "زينة منصور" للبصل وتدخل جلال "أحمد داوّد" للتقطيع على طريقته، أو مدى اهتمام "رفعت" الشديد بتحضير الطبق المفضل لمحبوبته شادية "ليلى علوي"، أو دلالة وضع الكرز على الكعكة، أو حتى اللجوء إلى صحون الجيلي المترجرجة للدلالة على فعل جنسي لا نراه بأعيننا لكنه يحدث في هذه اللحظة.
لا يكتفي نصر الله وعبدالله بتسيير الدراما وفق مجموعة من علاقات الحب، بل تسير الروابط العائلية قدمًا بقدم مع الروابط العاطفية لتلقي المزيد من الضوء على ما لا نعرفه كغرباء عن تلك العائلة التي امتهنت طهو الطعام في المناسبات لسنوات طويلة، والذي قد يأتي بعضه من خلال الحوار المكتوب على لسان اﻷب والأبناء، أو على لسان اﻵخرين مثل فريد أبو رية "محمد فراج"، الطامع في الفندق المملوك للعائلة أو عم مرقص "صبري عبدالمنعم"، الذي يسرد قصة حياة "شادية" بشكل تلقيني غريب على شريط الصوت، أو من خلال الوسيلة اﻷكثر فاعلية وذكاء من مجرد الركون إلى الحوار، وهي استنباط الطبائع اﻷصيلة تحت ضغط العمل، مثل مشهد الرهان المنعقد بين "رفعت" و"جلال" بما يحمله من تحدي، أو المشاهد التي يقوم فيها اﻷب يحيى "علاء زينهم" بإعطاء التعليمات، والتي كانت بالمناسبة من أفضل المرات التي تم فيها استثمار قدراته التمثيلية على نحو غير مسبوق في تاريخه الفني.
إن الطبيعة الكرنفالية لحفل الزفاف الريفي ذلك يسمح إلى أقصى حد بأن تضاف إليه مكونات درامية وفنية كثيرة، وهو ما يجعل بطبيعة الحال وجود الأغاني غير مستهجن كثيرًا، ﻷنها لا تدخل بشكل فجائي دون مسوغ درامي مثلما يحدث في الغالبية العظمى التي تدخل الأغاني ضمن أفلامها، وإنما يتم ضمها كجزء من الحالة الكرنفالية تلك مثل مشاهد رقص النساء فوق السطح، وإن كنت لا أعرف على وجه الدقة ما إذا كانت مشاركة محمود الليثي بنفسه وبشخصيته الحقيقية هو أمر طبيعي في هذا السياق أم لا، نظرًا ﻷننا نتحدث عن عرس ريفي لا يشي مظهره بالترف الذي يسمح بالاستعانة بمطرب شعبي شهير.
بعيدًا عن حفل الزفاف، يفقد الفيلم شطر ليس بالقليل من تركيزه الدرامي بعد انتهاء الحفل وعودة الجميع إلى الحياة الروتينية، وتتبعثر خطوطه بشكل يفقدها الحميمية المكتسبة خلال حفل الزفاف حتى مع كل المحاولات الدرامية لضم اﻷبطال معًا في أحداث درامية انفعالية مثل حادثة وفاة اﻷب إثر تناوله جرعة زائدة من حبوب منشطة جنسيًا وما تلاها من أحداث تنشد إحداث المزيد من الحميمية بالرغم من كونها لا تضيف جديدًا على الصعيد الدرامي عما اكتشفناه بالفعل خلال حفل الزفاف من حقيقة العلاقات التي جمعت اﻷبطال
كان أبرز سبب أدى إلى تشتت وحدة السرد هو الخط الخاص بعاشور "محمد الشرنوبي"، الذي كان لا يعدو وجوده في الفيلم مجرد حيلة درامية ﻹيجاد سبب للتصادم بين عائلة الطباخ وبين فريد أبو رية لكونه متزوجًا عرفيًا من شقيقة "فريد"، كما انصرف وقت ليس بالقليل من الفيلم من أجل البحث عن ورقة الزواج العرفي بعد سرقتها من قبل أحد الغجر ومحاولة استعادتها ومطاردته من قبل "فريد" ورجاله واضطراره للهروب.
كان التوتر وتضارب المصالح بين عائلة الطباخ و"فريد" وحده كفيلًا بخلق دراما جيدة - ولن نقول استثنائية- داخل الفيلم، حتى مع الاحتياج الملح لخلق ملامح مختلفة لشخصية "فريد" التي لم تبتعد كثيرًا عن تصورنا المعتاد ﻷي ثري استغلالي، ودون أن نذكر الكاريكاتيرية الشديدة التي خرجت بها شخصية زوجته أم رقية "صابرين" في النهاية بدون قدرة على ترسيم حدود واضحة بين أن تكون هذه الشخصية كاريكاتيرية محضة وبين أن تكون مرسومة بهذه الهيئة عن قصد.
إن الاستعانة بجزء من تتابعات النهاية ﻷجل وضعه في بداية الفيلم قد أضفى حالة من الارتباك واﻹيحاء للمشاهد بأنه سيكون هناك منحنيات درامية ملتوية ومثيرة حتى مع كون اللجوء لهذه الحيلة الدرامية مجرد أمر شكلي بحت، كما أن تتابعات النهاية نفسها ذكرتني بنهايات أفلام إسماعيل يس من فرط كاريكاتوريتها رغم إنه لم يكن ذلك ليكون أمرًا سيئًا في حد ذاته لولا الوقت الذي ضاع مع خط "عاشور" وما انبنى عليه من أحداث.
ومع امتلاء الفيلم بالمشاكل، فأنا لا أعتبره فيلمًا سيئًا بالمرة، بل كان يحتاج فقط لتوجيه بوصلته نحو الوجهة الصحيحة، وأن يحافظ أكثر من ذلك على وحدة حالته التي شهدناها خلال حفل الزفاف بدلًا من مواصلة السرد والتعريف بالشخصيات بحيل درامية أضاعت بعض ملامح "الوجه الحسن" للفيلم.