بعد "حار جاف صيفًا" الذي قدم رحلة قصيرة وموجزة ومؤثرة خارج المنزل على مدار يوم واحد في حياة رجل مسن ومصاب بالسرطان، يقوم المخرج شريف البنداري في أول أعماله الروائية الطويلة "علي معزة وإبراهيم" بإشراك مشاهده في رحلة آخرى مختلفة عن الرحلة السابقة، وواعدة بالكثير من المشاهدات والحكايات أكثر من سابقتها.
يحرص "البنداري" منذ تترات البداية على التواصل مع مشاهده لدرجة استقباله لتلقي عالم الفيلم، وهذا الاستقبال يأتي من خلال ابتسامة مرسومة على وجه دبدوب يظل ملازمًا للمشاهدين حتى نهاية التتر، ولا يفارق الشاشة بتاتًا، مع صوت فوقي ما هو إلا أغنية "اللف في شوارعك" لـمحمد محسن، والتي تعطي لمحة مبكرة عن روح الرحلة الجديدة التي سيخوضها بطلي الفيلم علي وإبراهيم علي صبحي وأحمد مجدي، كما أنها تكسر حاجز الجليد بسرعة بين الفيلم ومشاهديه خاصة لكونها معروفة سلفًا لعدد كبير من المستمعين، وذلك على الخلاف التام من الصوت الفوقي الذي يبدأ به فيلم "حار جاف صيفًا" الذي حمل صبغة تقريرية عن ملابسات الرحلة وظروفها.
ما أن ينتهي تتر الفيلم، تنزل التفصيلتان الرئيسيتان فيهما (الأغنية+الدبدوب) ﻷرض اﻷحداث تمامًا لنراهما هذه المرة بأعين مختلفة تمامًا عما رأيناهما عليهما في التتر وبدون رتوش الاستقبال اﻷولي وكل منهما اﻵن على حدة، ومن نفس منظور حياتهما اليومية، فبينما نستمع لنفس اﻷغنية ولكن هذه المرة في صيغة مهرجان يقوم علي بتسجيله في الأستوديو الذي يعمل به، بينما نرى الدبدوب هذه المرة وهو محمول فوق أكتاف علي ومتوجهًا به للميكروباص الذي يعمل عليه مع صديقه كاماتا، مظهرًا الفارق بين رؤية كلاهما لتفاصيلهما الصغيرة في حالة اجتماعها وامتزاجها، وبين وضعيتها في عالمهما التي لا يستوعبها كل من حولهم.
قد يبدو من النظرة اﻷولى أن تفاصيل الحكاية غرائبية ومفارقة لعالم الواقع المادي، لكن "البنداري" لا يقدمها بتاتًا على هذا النحو ولا يفكر فيها حتى بهذه الكيفية، وينجح أيضًا في تطبيعها ﻷقصى حد مع من يشاهد، ومد جذورها حتى العمق بالواقع المعاش، مستغلًا في ذلك كل المفردات البصرية والحياتية التي تكتنف حياة البطلين في حيزهما الخاص (طبيعة المهن التي يزاولها علي وإبراهيم، الحياة في المساكن الشعبية، مفردات الثقافة الشعبية، العلاقات اﻷسرية، نظرة اﻵخرين لكل من علي وإبراهيم، والحلول المتبعة في اﻷزمات مثل اللجوء للدجال)، باختصار، شريف البنداري يجعلك ترى ما هو غير مألوف بالنسبة لعالمك وكأنك تراه على نحو يومي.
قبل التقاء علي وإبراهيم، كان كل منهما يجد العزاء في رفيق صامت ﻷن حياة كل منهما صاخبة بما فيه الكفاية خاصة مع وجود كل هذا القدر من التربص حولهما، فعلي لا يجد الراحة سوى مع معزته ندى ﻷنها هى الوحيدة التي لا تزعجه أو تسخر منه أو تستهزء به لذلك كان من المنطقي كل هذا الارتباط بها مع الوضع في الاعتبار طبيعة عمله الصاخبة، أما إبراهيم فهو غير قادر على عيش حياة طبيعية سواء في العمل أو خارجه بسبب النوبات التي تأتيه، فيصير الانعزال والانغلاق على الذات هو الحل المسكن المتاح في اليد، خاصة مع وجود رفيق أصم لا يرهقه في الحديث وهو جده المسن الذي تخلص من النوبات المتوارثة من سنوات بطريقته الخاصة.
مع تلاقي مسارات علي وإبراهيم بفضل لجوء كلاهما للبحث عن حل لدى الدجال، تتحول همومهما الفردية إلى هم واحد مشترك يمكن ترجمته إلى الانعتاق من حيز التهميش داخل حياة هامشية في ذاتها إلى الانفتاح على العالم بنفس طبائعهما اﻷصيلة التي لم تكلفهما سوى كل سخرية واستهزاء في حياتهما المغلقة، فعلي يستغل "عمل" الدجال كذريعة للانفلات من سطوة اﻷم معززًا تواصله وتعلقه بمعزته ندى، أما إبراهيم فيحاول هو اﻵخر الخروج من غرفته المغلقة وخلواته المستمرة لتسجيل اﻷصوات وأحاديثه الصامتة مع جده ﻷنها لم تعد وسائل كافية للهروب من مشكلة نوبات اﻷصوات المزعجة التي يعاني منها، ولذا تاتي الرحلة الكبرى التي يخوضاها معًا لتكون هى نقطة البداية في حياتهما الجديدة.
من هنا يعود هاجس الرحلة الذي كانت له اليد الطولى في "حار جاف صيفًا" للسيطرة مجددًا على دفة الحكاية هنا، وتلتقي كل من الرحلتين حول هدف مشترك، فمثلما كان هدف عم شوقي اﻷساسي من الرحلة هو السعي وراء آخر أمل باقي للعلاج من سرطان القولون الذي يعاني منه، يصير الهدف المبدئي لرحلة علي وإبراهيم هي البحث عن أمل أخير لمشاكلهما بناء على نصيحة الدجال.
مع سير الرحلة، يترك "البنداري" الدفة تمامًا لسلسلة المواقف التي تتولد بين علي وإبراهيم لتتولى هى دفة القيادة، ودون أن يفرض أية تساؤلات وجودية ملحة لتثقل على الشخصيات أو يفسد تدفق الرحلة نفسها، ويجعلها تبدو وكأنها تتابع بشكل عفوي نابع من الانغماس في تفاصيل اﻷماكن الجديدة التي يزوراها، لنتابع نحن اللهو واللعب الذي يمارساه باستمرار خاصة مع وجود ندى المعزة التي تحظى بمساحة معتبرة في هذه المواقف.
وهذا بالضبط ما يميز شريف البنداري عن الكثير من أقرانه، فهو لا يحاول التعالي على جمهوره ولا أن يفرض عليهم تساؤلاته وآرائه عنوة أو أن يحدثهم عن نفسه كثيرًا كأغلب صناع اﻷفلام الجدد، بل يحاول أن يتواصل مع الجمهور وأن يبني معهم مساحة مشتركة تأتي من مفردات العيش اﻷساسية، مشاركًا لهم في حكاياته كصديق يجلس معك على المقهى ويفكر معك بصوت عالي، مما يُؤهّل "علي معزة وإبراهيم" ليكون حجر أساس لمشروع سينمائي ينجح على خلاف الغالبية العظمى من صناع الأفلام في رأب الصدع بين ما يريد صانع الفيلم أن يحكيه وما يريد الجمهور أن يشاهده.