أحتاج الروائي المصري إبراهيم أصلان أكثر من ثمانية أعوام لكي يُسجِّل مقطوعته الأدبية، رصف ألحان الحزن المكتومة في ربوع "الكيت كات" بأمبابة معًا، ودنا من القلوب البائسة التي تنبض في النفوس الثائرة، ورمم صخب الشوارع، فاستقام مقطوعة واحدة في جفون المتلقي.قد ندَّعي أنها نشَّزت قليلًا في السرد، لكننا سنعترف أن الأذهان لن تطيل في زوغها حيث تلتحم الحكايات من هنا وهناك فيما يجمعها من وحدة عضوية، وفيما تحتبس شخوصها في كيان شعوري واحد، كلهم كانوا مثل "مالك الحزين"، الطائر الذي يبكي على ضفاف المياة الغضَّة.عنوَّن أصلان روايته القصيرة بهذا الاسم المتداول لطائر "البلشون"، والذي يضم حوالي ستين نوعًا من أنواع الطيور، تجمعها خصائص مشتركة، كالسلوك الذي يعده البعض طورًا من أطوار الحزن، ألا وهو طأطأة الرأس أمام البحيرات والجداول بعد جفافها، والتي كان أعتاد أن ينهل من مياهها ولحومها.
كذلك كان "الكيت كات"، خليط مثير من أطياف البشر، يلتقوا في المقهى فتصطبغ ألوانهم المختلفة، أنواع مختلفة يجمعم نفس الشعور، جميعهم يتحصَّرون علي المياة الجافة، وإن أختلف مفهوم المياه الجافة من شخص إلى أخر. العنونة هنا تُعطي تشبيهًا جليًَّا، وإسقاطًا سياسيًا يدفع الحالة إلي معاني أكثر شمولية، مما يُفسِّر إدعاء البعض أن "مالك الحزين" يمثل الشخص المصري عمومًا، وليس التمثيل مقتصرًا على علي شخصية أو منطقة بعينها، فالرواية متعددة الشخصيات والأماكن والأحداث بالرغم من قلة أوراقها، الشخصيات تظهر سريعًا والأحداث تتدفق بهرولة، مما يدفعنا إلي الترجيح بأن أصلان يرغب في التعامل مع كيانات ومشاعر وحالات، تتسع لتغطي طبقات الشعب جميعًا، أكثر من كونه يرغب في التعامل مع شخصيات.
ما يجعل الكيت كات لحنًا عابرًا في سيمفونية أصلان، هو قرار ارتكبه المخرج العبقري داوود عبدالسيد، حيث تعاطي شخصية "الشيخ حسني" صانعًا منها شخصية محورية في أحداث فيلمه، وكأنه تلقي لحنًا أعجبه، فنسخ منه مقطوعة مستقلة،ولولا مركزية الشخصية لما أدرك الفيلم ما أدركه من مكانة سامية في قلب السينما المصرية، الأمر أشبه بما حدث مع تحفة الروائي العظيم نجيب محفوظ "أفراح القبة"عند تحويلها إلي عمل تلفزيوني، والمقصود هنا هو قدرة صانع العمل الفني علي قراءة السياق الأدبي كعالم كامل وكبير وواسع، واستهلاك أدق التفاصيل في بناء العالم السينمائي أوالتلفزيوني، كاستعمال شخصيات مهمشة أو عابرة أو حتي إضافة شخصيات جديدة، وهذا مفهوم الإبداع، فالروح الابتكارية تكن على دراية كبيرة جدًا بأن التأويل البصري للأعمال الروائية لا يعني ترجمة مرئية محضة للورق، أو صياغة العمل الروائي في شكل نص سينمائي فحسب.
الشيخ حسني كفيف، الجميع يذكر هذا أمامه، وهو يتعامل مع قولهم بكل أريحية، لم يلق الحياة عابسًا، لم يسمح للحزن الذي تملكه بأن يصير تشاؤمًا، يخطو في الحياة بزهوِِ، سرعان ماتحولت قناعته بما هو عليه إلي خيلاء، يطمع في أن يحصل علي مَزِيَّة، تجعله يشعر وكأنه بصير، يحتال علي العميان، يخبرهم أنه يري، ويصف لهم بعض الأكاذيب المرئية، يزفر ببعض لحظات الرضا، يستوقف بها حزنا دفينًا يمكث في قلبه منذ آمد.
شخصية مثيرة للاهتمام، غنية، وعلى درجة جيدة من التعقيد، وأخيرًا قُدِّمَت سينمائيًا في أعظم حال، بفضل عبد السيد، وتجسيد محمود عبد العزيز. الأخير ذاب تمام في ثياب الشخصية، تفهم فلسفتها، وأدرك شعورها، قبض علي الحوار فأطلقه بسلاسة وتلقائية وعفوية، مازجًا أياه ببعض السمات الحركية التي تطبعت بها الشخصية، هكذا تشكل كيان "الشيخ حسني" في عنفوان حيويته، بثقل الشخصية الأدبي، ونضرة الحلم الفسيح الذي يجتاح وجدانه، كان يريد أن يحلِّق، يلمتس الظروف ليحقق مراده العجيب، فينكب علي "الموتسيكل" -كما في المشهد الشهير- فيطير به، سيغرِّد في أحلامه التي تسكن جفونه المظلمة، بأناشيد تخبره أنه لم يفشل في أن يكون مُنشد، أو تواشيح تُثبت له أنه لم يفشل في دراسته الأزهرية، غير أنه سيروي للجميع أن أخر ما أنسكب على عينيه قبل أن يغيب عنهما الضياء، مشهد لفتاة أو سيدة جذابة تغتسل. ينتشي بالسعادة مع جرعات مكثفة من الأحلام وهو يحلق!
هذا اللحن العابر - الشيخ حسني - يقترب في (تونِه) من باقي ألحان الكيت كات، طيور مالك الحزينة، البكَّاءة علي الأحلام اللا محدودة التي تُحتَبَس في الجسد الضعيف، العاجز، والفاني...
راجح داوود يتفاعل مع هذا المعنى، موسيقاه قبة حالمة لهذا الشجن المتكتل في الشخصيات، الحزن والحلم والذكريات، والطموحات التي نضبت..
براعة داوود هنا تكمن في كونه منتقي جيد، للعمل الأدبي، وللشخصية التي سيمركزها، ولفريق العمل الذي سيعمل تحت يديه، والبديع هنا ليس أنه يختار فريق مؤهل فنيًا فحسب، بل مقترنة أيضًا بتناغم هذا الفريق فيما يقدم، وتناسبه مع أجواء الفيلم، بيد أن إبداعه تعدى ذلك، تحريك الممثلين وتفاعلهم كان علي درجة عالية من الواقعية والحيوية والإتقان، كاميرة متمهلة، وتمثيل ناضج، وحوار بليغ وبسيط، تقطعه لحظات صمت موفقة.
هكذا كان اللحن العابر، الذي بلغ من العذوبة ما يفوق السيمفونية الأصلية، والكاملة!