صنف أفلام الكوميديا ربما هو أكثر الأصناف حساسيّةً وحاجةً لمجهودات خاصة حتى تخرج أفلامه بشكل لائِق وفعّال. الإيفيه أو النُكتة التي نسمعها ونهيمُ بالضَحِك عليها من بطوننا قد نعتقد أنها سهلة الصُنع، بينما هي في الحقيقة ليست سهلة على الإطلاق. فأشياءٌ كالتوقيت المُناسِب، جديّة الشخصيات، طريقة الالقاء، هي ما تحكُم العمليّة برُمَّتِها. بالإضافة بالطبع لنوع أو موضوع النُكتة ذاتها. وما يجعل تقديم هذه الكوميديا في الأفلام صعبة، هو أن الفيلم طويل المدّة، وهذا يعني وجوب إقحام المُشاهِد في الموود الفُكاهي للعَمَل دون أن يفقد اهتمامه، أو أن يملّ مما يُعرض أمامهُ..
الفيلم الجديد لتامر حسني "البدلة" هو واحدٌ من قلائل هذه الأفلام التي صُنِعَت بحرفيّة، دون إغفال أو تكثيف جانِب على حساب آخر فيما يتعلّق بعناصر هذه التجربة الكوميدية (الفُكاهية الظريفة للبعض، والهيستيريّة تمامًا للبعض الآخر). فما سبب فاعليّة الأجواء هُنا؟
أول عوامل تميُّز الفيلم هو عدم ميله -كحال معظم الأفلام- إلى الطريقة السهلة لكل شيء. هو يعلم أنّه يريد تقديم شيئًا مختلفًا، والأهم "جيّدًا"، ولا يجنُح في ذلك إلى الاستهسال. نرى ذلك في عدة نقاط لعلّ أهمها هي (كثرة مواقِع التصوير)؛ الفيلم مليء بأماكن مختلفة تمامًا عن بعض (كإستاد رياضي، مول تُجاري، قرية ريفية، شوارِع قاهِريّة.. نادي، كُليّة) كلها أماكن سنقوم بالمرور عليها مع بطلا الفيلم المولودان في ذات اليوم؛ وهُما شاب وخالهُ (تامر حسني، وأكرم حسني)، كل شخص منهم قد فشل في حياته الوظيفية، قبل أن تتحول صُدفةً خاطئة في حياتِهم (بأن ذَهَبوا إحدى الحفلات متنكّرين في زي ضابطا شرطة، وهي حفلة حضرت بها فتاةً كانت زميلة لهم في المدرسة الابتدائيّة)، إلى أمر في غاية الروعة بالنسبة لهم، ليقرّرا من بعدِها عدم التخلي عن هذه البدلات المذهلة التي أعطتهُم ما لم يستطيعوا الحصول عليه من قبل. بالإضافة إلى رغبة شخصية تامر حسني بالتقرُّب من شخصية الفتاة (جسّدتها أمينة خليل) عبر هذه الحيلة.
تتجلى صورة الميل نحو صعوبة التقديم بدلًا من الاستسهالية والتقليدية في مشهد مُطاردة السيارتين قُرب النهاية بمول "صن سيتي"، حيث هذا المشهد وحيدًا، به ما يفوق كل مشاهد الأكشن بفيلم محمد رمضان "الديزل"، الذي يُصارعه باحتدام على لقب الفيلم الأكثر حصدًا للإيردات يومًا بعد آخر من أيام عيد الأضحى الأربعة.
فِكرة التنكُّر تلك ربما تكون مُستهلكة للبعض، لكنّ الفيلم أيضًا لم يُخفي ذلك!؛ فقبل ظهور الصورة الأولى في الفيلم، وتحت عنوان الفيلم الظاهر في المُقدّمة هناك جُملة "مستوحي من فيلم أجنبي"، وهو ما يؤكد نوعية السخرية التي ينتهِجها العمل حتى وإن صادف بضع تشابُهات أفلام نفس التيمة. ففي هذا القالب، تقديم شيئًا أصليًا يخلو من تشابُهات الأفعال أو الأفكار المُقدّمة سلفًا أمرًا قد يكون مستحيلًا.
ما يُهم حقًا هُنا هو معالجة الفِكرة تحت لِباسِها الجديد، والتقديم جاء كأروع ما يكون.. حيث الكيمياء بين بَطَليّ العمل حاضرة بقوّة، ومُعطية للفيلم روحٌ كوميدية من نوعٌ خاص، ربما تصل درجته إلى الوصف كواحدٌ من أظرف الأفلام المصرية التي قدّمت ثنائيًا كوميديًا على الإطلاق. وهذه نقطةً تُحسب للفيلم على صعيد التجديد في الشكل الكوميدي؛ فنحنُ دائمًا ما نرى نجم الشبّاك أو النجم الواحد هو الذي يتصدّر الفيلم الكوميدي، ومعهُ أبطال مُساعدين. أما هُنا فمِن الظُلم القول أن "تامر حسني" قد كان هو البطل، هذا فيلمًا يتقاسمهُ بَطَلان لا بطل واحد.
صحيحٌ أن الفيلم قد اعتمد بشكل كبير على (كوميديا الموقِف)؛ أي نُكات الظروف الطارئة التي تحدث لأسبابٍ مفاجئة بالبيت أو الشارع ويتحكّم بها الموقف أكثر من القصة ذاتِها، لكن هذا لا يعني أن القصة التي نُتابِعها ضعيفة الكوميديا... بالعكس، هي قصة جذابة، ومُشوّقة جدًا أيضًا لما بها من نزعة تشويقية في خط الأكشن الذي ظهر في الشوط الثاني من الفيلم (الأكشن هُنا متعوبٌ فيه، ومصروفٌ عليه). وهذه الكوميديا جاءت قويّة لسبب أساسي هو أن الفيلم فاهمٌ جيدًا لطبيعته الساخرة وحسه الفُكاهي، فهو يسخر من أي شيء، وتقديمه لمواقِفه ذاتِها هزلية؛ لذلك لا نفكّر كثيرًا بمدى منطقيّة بعض الأحداث، لأنه يتخذ من لا منطقيته تلك طريقة مُناسبة لضخّ كم هائل من المواقِف التي تُطيحك أرضًا من شدة كوميديتها.
وما يجعل هذه الخَلطَة الكوميدية حقًا فعّالة، هو (موضوع النُكتَة)؛ فنحنُ أمام كوميديا شاب فاشل دراسيًا، وحياتيًا، ووظيفيًا. وآخر فاشل في ربط الأمور ببعضها في عقله، ما يجعل تصرّفاته مضحكة أيّما كانت. والأمر الطريف هُنا أنهما برغم ذلك، يجدّان أنفُسهُما قد قَبضا على أحد أكثر المجرمين خطورةً في العالم دون أن يعلموا، وتُطاردهم الشرطة -الحقيقية- للقبض عليهم. لتمشي مع الـ"الهُبل دوبل" كما يُقال!
فالكوميديا هُنا تُقدَّم على هامش شابين -أو رجلين- تجمعهُما صفة الإحباط والفشل المهني.. وهو ما يجعل نجاحهُما في أي شيء بمثابة انتصار للمُشاهد ذاته الذي يتعاطف مع مثل هذه الأشياء سهلة التواصُل. وهو ما يجعل الرحلة بأكملها -حيث التنكُّر في زيّ رجل شرطة يحترمه ويهابهُ الجميع- كأنها حُلم بالنسبة لهم. هذا نفس مفهوم السينما الأمريكية لأحد أشهر أصنافِها وهي الـ Feel-Good Movies: رحلةً فيلمية ستجعلُك سعيدًا، بشرط أن تتناسى منطقيّتها، ونعدُك فيها بالكثير من تحقيق الأماني التي لن تحققها في حياتِك الواقعية. وبالتأكيد: النهاية الكبيرة السعيدة التي سترسم الابتسامة على وجهك فور خروجَك من قاعة العرض.
الفيلم رائع للغاية ومُتخَم بالكوميديا التي لا تهدأ منذ المشهد الاستهلالي حتى الخاتمة. ولا أعتقد أن هناك شخص يمكن ألّا يُحبّ الفيلم، أو أن يخرج من قاعة السينما غير راضيًا أو مستمتعًا.. حتى أولئك الذين لا يحبذون الأفلام الكوميدية سيجدونه مُسليًا على الأقل لما فيه من طرافة مواقف، وخفّة ظِلّ موضوعة بشكل ذكي للغاية من صُنّاع الفيلم.
وحتى إن انتهيت من الفيلم وجئت لتفكّر: ما أفضل مشهد نال إعجابُك، أو ما المشهد الأكثر ظرافةً به؟.. ربما لن تستقر على واحد، لأن الفيلم يحمل كمّ كبير من المشاهد المضحكة الحُلوَة، والتي -أثناء مُشاهَدَتك- كلّما يأتي أحدها لتظُن أنه الأفضل حتى الآن، سيأتي مشهد آخر أكثر وقعًا وتأثيرًا، ويُسبب ضحكًا أعلى من المُشاهدين في القاعة. لتكون النتيجة التي ستصلُ إليها أن الجرعة هُنا كانت ثقيلة حقًا، ثقيلة وفعّالة.. وتجربة ربما كُنتَ في أشد الحاجة إليها.