"لو كان عبدالله غيث فى أوروبا أو أمريكا لكان له شأن آخر" كان هذا تعليق أنطوني كوين عندما شاهد أداء عبدالله غيث البارع لشخصية سيدنا حمزة بن عبدالمطلب فى فيلم الرسالة، فقد كان الفنان العالمي الذى جسد نفس الشخصية فى النسخة الإنجليزية من الفيلم يقف مشدوهاً وهو يتابعه، وقد تميز عبدالله غيث بإجادة جميع الأدوار التى أُسندت إليه، كما كان من أبرز الفنانين الذين نجحوا فى القيام بالأدوار التاريخية والدينية، بفضل ثقافته الدينية الواسعة، بالإضافة إلى لغته العربية المتمكنة وصوته القوي الرخيم.
وفى ذكرى ميلاده نتذكر فناناً بارعاً أثرى السينما والمسرح والتليفزيون والإذاعة بأعمال متميزة وخالدة فى تاريخ الفن.
ابن العمدة
ولد عبدالله غيث فى 28 يناير عام 1930 فى إحدى قرى محافظة الشرقية لأسرة ميسورة الحال تمتلك مئات الأفدنة، وكان والده أول عمدة متعلم فى أوروبا، حيث سافر لندن لكي يتعلم الطب، وقضى سنتين فى جامعة كمبريدج، وعندما عاد فى أجازة قامت الحرب العالمية الأولى، فلم يستطع العودة إلى لندن مرة جديدة، وتولى العمودية فى بلاده، ولكنه لم يستمر كثيراً، حيث توفى شاباً، وكان عبدالله غيث لا يزال فى عامه الأول.
عقب وفاة الأب، انتقلت الأسرة إلى القاهرة، حيث أقاموا فى حي الحسين لدى جدهم لأمهم، والذى كان أحد علماء الأزهر الشريف، والتحقوا بالمدارس هناك، وعن تلك المرحلة فى حياته تحدث عبدالله غيث فى حوار قديم له قائلاً " نشأت فى وسط ديني، مما كان له أكبر الأثر فى تكويني الشخصي والفني فيما بعد، وكان جدي يجمعنا من حوله ليقص علينا قصص السيرة النبوية العطرة، ويحكي لنا بأسلوب جميل مبسط كيف كان خالد بن الوليد، وماذا فعل عمر بن الخطاب، وهكذا كنت أعرف الشىء الكثير عن الإسلام والبطولات منذ كنت طفلا".
وإذا كان عبدالله غيث قد تأثر بنشأته فى وسط ديني، فإنه لم ينس حياة الفلاحين، ففي حوار له قال " كنت أعيش فى القاهرة، لكني أقضي شهور الأجازة الصيفية فى القرية، ارتدي الجلباب وأتجول بين الحقول، أحيى هذا وذاك، فقد كنا معروفين كأبناء عمدة سابق، ترك العمودية لأخيه بعدما مات، وكان عمي العمدة شخصية ساحرة، فقد كان حازماً ومحبوباً فى ذات الوقت، مما جعل الناس تحبه وتلتف حوله، ولم أشعر ونحن فى منزل عمي باليتم، لأنه كان كريماً يهتم بنا اهتماماً بالغاً، وكان يصحبناً فى الأعياد لتقديم التهاني للفلاحين وأهل القرية، وقد حرص على غرس قيم الوفاء والرجولة فينا".
طالب فاشل
لم يكن عبدالله غيث متفوقاً فى دراسته، بل على العكس كان تلميذاً فاشلاً يهرب كثيراً من المدرسة ليذهب إلى المسارح والسينما، وبالكاد حصل على الإعدادية ثم الثانوية، وفى تلك الفترة مات عمه العمدة، والذى كان يتولى رعاية أملاكهم وأرضهم، فكان لابد أن يتولى أحد أفراد الأسرة تلك المهمة، وعلى الرغم من كون حمدي غيث الابن الأكبر للأسرة، إلا أنه كان متفوقاً فى دراسته سواء فى كلية الحقوق أو معهد التمثيل، فلم يكن ممكناً أن يترك دراسته، أما عبدالله فكان يكره الدراسة، ويردد دائماً أنه لا يرغب أن يكون طبيباً أو مهندساً، بل يتمنى أن يكون فلاحاً يزرع الأرض أو ممثلاً، لذا بعد حصوله على الثانوية العامة تولى مصالح الأسرة، وظل يعمل بالزراعة ويشرف على الأرض لمدة 6 سنوات.
فى تلك الأثناء عاد حمدي غيث من بعثة لدراسة التمثيل فى باريس، وأصبح أستاذاً فى المعهد العالي للفنون المسرحية، ووجد شقيقه الأصغر لايزال يعشق التمثيل، ويتمنى أن ينمي قدراته فى هذا المجال، فشجعه على الالتحاق بالمعهد، وعلى الرغم من أن عبدالله كان تلميذاً فاشلاً بالمدرسة، إلا أنه كان من أوائل دفعته فى المعهد، وقد سانده حمدي ووقف بجانبه، لأنه أدرك أن شقيقه يمتلك موهبة فى التمثيل، فضلاً عن ملامح مصرية صميمة.
ممثل بالواسطة
وقد تحدث عبدالله غيث فى العديد من حواراته عن فضل شقيقه حمدي غيث عليه فقال " رغم أن فارق السن بيني وبين حمدي ليس كبيراً حوالي ست سنوات، إلا أنه كان بمثابة الأب بالنسبة لي، فهو الذي حببني فى الأدب، لأنه سبقني للقراءة، وهو الذى حببني فى المسرح والفن، لأنه ارتاد المسارح قبلي، وكان أستاذ لي على المستوى الأكاديمي، وهو أول من قدمني للجمهور، فقد كان المخرجون يحجمون عن إسناد أدواراً لي اعتقاداً منهم بأنني دخلت الفن بواسطة أخي، ودون موهبة حقيقية، ولكنه أصر على تقديمي، وكان أول عمل لي مسرحية "تحت الرماد"، وعلى الرغم من صغر دوري، إلا أنني نجحت فيه، وبعدها كتب عني النقاد الكبار، وأشادوا بموهبتي".
نجومية مسرحية
انطلق عبدالله غيث فى المسرح يقدم عشرات المسرحيات التى حققت نجاحاً جماهيرياً ونقدياً كبيراً، وقد وصلت براعته فى الأداء المسرحي إلى حد أن الجماهير كانت تطالبه بإعادة مقاطع من المسرحية، ومن أهم تلك المسرحيات التى حققت نجاحاً استثنائياً الفتى مهران، زيارة السيدة العجوز، الوزير العاشق، المسامير وغيرها الكثير.
أدوار مؤثرة
على الرغم من أن عبدالله غيث لم يقدم أفلاماً كثيرة، حيث لم يتجاوز عددها 17 فيلم، وهو رقم ضئيل بالمقارنة بأعماله المسرحية والتليفزيونية، إلا أنها كانت أعمالاً هامة، وقدم فيها أدواراً لا تنسى، نتذكر منها دور الفلاح المهزوم فى فيلم الحرام أمام سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة وإخراج بركات، كما قدم دور المناضل فى فيلم ثمن الحريةأمام محمود مرسي و صلاح منصور وإخراج نور الدمرداش، وشخصية خالد بن الوليد فى فيلم الشيماء أمام سميرة أحمدوإخراج حسام الدين مصطفى، كما قدم قصة البطل الشعبي الأسطوري أدهم الشرقاوى فى الفيلم الذى حمل نفس الأسم أمام لبنى عبدالعزيزو سميحة أيوب وإخراج حسام الدين مصطفى، ومن أفلامه الآخرى السمان والخريف، عصر القوة، ديك البرابر، ملف سامية شعراوي، وعن سبب قلة أعماله السينمائية قال فى حوار قديم " كنت اهتم دائماً بقيمة الدور الذى يضيفه لي، لذلك رفضت الكثير من الأدوار التي وجدتها غير مناسبة لي".
أعظم دور فى حياته
لا يمكن أن نتحدث عن مشوار عبدالله غيث الفني، دون أن نتوقف طويلاً أمام دوره الرائع فى فيلم الرسالة للمخرج مصطفى العقاد، حيث قدم شخصية سيدنا حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم بإجادة شديدة، وقد تفوق على الفنان العالمي أنطوني كوين الذى قدم نفس الشخصية فى النسخة الإنجليزية من الفيلم، وعن قصة قيامه بهذا الدور قال فى حوار له " كنت خائفاً من فكرة التنافس مع كوين، خاصة أننا كنا نقدم نفس الدور بنفس المشاهد، ومضيت إلى الكاميرا والأرق ينتابني، ولكني تذكرت التاريخ المجيد للعرب، وما إن انتهيت من أداء الدور هنأني أنطوني كوين قائلاً أنت أفضل مني، ولو كنت فى أوروبا أو أمريكا لكان لك شأناً آخر" ، وأيديته النجمة اليونانية إيرين باباسالتى قدمت دور هند بنت عتبة فى النسخة الإنجليزية من الفيلم، قائلة أن عبدالله غيث فنان عالمي على مستوى عال.
لم يقتصر تعاون عبدالله غيث مع مصطفى العقاد على فيلم الرسالة فقط، إذ قام بالأداء الصوتي لشخصية المجاهد الليبي عمر المختار فى النسخة العربية المدبلجة من فيلم عمر المختار.
أفغانستان لماذا
لم يكن الرسالة الفيلم العالمي الوحيد الذى قام ببطولته عبدالله غيث، إذا شارك أيضا فى فيلم أفغانستان لماذا للمخرج المغربي عبدالله المصباحي، بطولة سعاد حسني ومجموعة من النجوم العالميين، بالإضافة لبعض الفنانين المغاربة، وعلى الرغم من أهمية الفيلم، حيث تحدث عن مخطط أمريكا لاحتلال أفغانستان بعد نجاحها فى إخراج الاتحاد السوفيتي، إلا أنه لم يعرض حتى الآن رغم مرور 30 عاماً على تصويره، حيث رفضت دول عربية كثيرة عرضه. وقد لعب عبدالله غيث دور أستاذ جامعي مفكر يتصدى لقوى الظلام فى بلاده.
كمال الطبال
إذا كان عبدالله غيث بدأ مشواره السينمائي والمسرحي من خلال أدوار صغيرة، إلا أن الأمر لم يكن كذلك فى التليفزيون، حيث كان نجماً من أول عمل شارك فيه وهو مسلسل "هارب من الأيام"، ورغم أنه لم يكن مرشحاً فى البداية لدور البطولة، بل لأحد الأدوار فى المسلسل، إلا أن اعتذار الفنان فريد شوقي قبل التصوير أعطاه فرصة عمره، حيث رشحه المخرج نور الدمرداش لأداء شخصية كمال الطبال، وهو دور مركب وجديد على الساحة الفنية حينها، وحقق عبدالله غيث نجاحاً ساحقاً فى هذا المسلسل، حتى أن الشوارع كانت تبدو خالية من الناس أثناء عرض المسلسل على الشاشة الصغيرة، كما حصل على جائزة أفضل ممثل تليفزيوني عن الدور عام 1963، وتوالت بعدها الأعمال التليفزيونية، حيث قدم أدواراً متنوعة، وأبدع فى تقديم شخصية ابن البلد والفلاح والصعيدي، وساهم فى تغيير شكل ونموذج الأداء لتلك الشخصيات بعيداً عن التهكم والسخرية، ومن أبرز أعماله التى لا تنسى المال والبنون، بوابة الحلواني الجزء الأول، زهرة والمجهول و الثعلب والذي جسد فيه شخصية الرئيس الراحل أنور السادات، وفى مجال المسلسلات الدينية قدم العديد من الأعمال أشهرها محمد رسول الله، الوعد الحق، أبو ذر الغفاري.
زوجة واحدة
إذا كان الالتزام أبرز صفة لازمت عبدالله غيث طوال مشواره الفني، فإن حياته الخاصة لم تختلف كثيراً عن مشواره الفني، فقد كان شخصية محافظة فى بيته، وقد تزوج فى سن 18 من ابنة خالته التى رافقته طوال رحلة عمره، وأنجبت له أدهم وعبلة والحسيني، وقد حرص عبدالله غيث على إبعاد أسرته عن الإعلام، ولم يرحب بعمل أبنائه فى الفن.
مرض السرطان
كانت محنة المرض الفصل الأخير فى حياة عبدالله غيث، حيث عانى من سرطان الرئة والكبد، وعلى الرغم من الآم المرض إلا أنها كانت محتملة إلى حد ما فى بدايتها، وكان ينساها من خلال العمل، إلا أنه بعد فترة تمكن المرض منه، وقد توفى قبل انتهائه من تصوير مسلسل ذئاب الجبل، حيث كان يتبقى له 8 مشاهد، واضطر المخرج مجدي أبو عميرة لتغيير نهاية المسلسل، لأنه لم يكن ممكناً أن يستعين بفنان آخر بعد أن قام عبدالله غيث بتصوير معظم مشاهده فى المسلسل. وهكذا رحل الفنان المبدع عبدالله غيث الذى قدم خلال مشواره الذى استمر أكثر من 30 عاماً عشرات الأعمال الفنية التى أداها بصدق شديد جعلته صاحب مكانة خاصة جداً فى قلوب المشاهدين.