عندما يلتقي بضع ممثلون لهم بصمتهم السينمائية المتميزة التي ألهبت جماهير شباك التذاكر بلمستهم السحرية في تاريخ السينما، فمن الطبيعي أن يصنعوا عملًا سينمائيًا خالدًا يعطي مذاقًا وطعمًا ونكهة في غاية الدهشة والروعة، بهذه الكلمات نسجت أفكاري وأنا أشاهد بوستر فيلم الجزيرة 2 المعلق على أحد جدران دور العرض السينمائية قبل أن أدخل لمشاهدة هذا الفيلم المتميز.
هذه المعادلة لم تذهلني كثيرًا كمشاهد لجديد وحديث السينما العالمية، وكمتذوق سينمائي من الناحية الفكرية والفلسفية يحلل ويعرف الكثير من خفايا وأسرار هذا الفن العظيم الذي يسمى بالسينما، لذا فأن أي عمل سينمائي يلتقي فيه ممثلون لهم صولات وجولات عبر الشاشة العملاقة لابد أن يصنعوا معجزة سينمائية تبقى ملامحها معلقة في العقول والأذهان، فالجزيرة 2 جمع مبدعين متميزين بدء من الفنان أحمد السقا والفنان خالد الصاوي والراحل الأسطورة خالد صالح والفنانة هند صبري إضافة إلى المخرج شريف عرفة، فهؤلاء التقوا في ميدان واحد من أجل صناعة معجزة سينمائية تسمى بالجزيرة 2.
هذا الفيلم الذي يعتبر إضافة متميزة ترسم عراقة وأصالة السينما المصرية، فالجزيرة 2 فيلم سياسي بحت يرصد التحولات والأحداث التي حدثت في مصر الثورة ولكن من جانبها المظلم والذي أُطيح فيما بعد بثورة الحرية والحضارة، هذا من جانب ومن الجانب الأخر، يُظهر الفيلم الفوضى التي حدثت في تلك الفترة من خلال فتح السجون وإقصاء دور الشرطة في حماية الشعب وفرض سياسة الانفلات الأمني بقوة نظام حاول أن يحكم مصر بطغيان ساسته الذين يلبسون عباءة الدين الإسلامي الحنيف، هكذا رصد هذا الفيلم الحالة التي عاشها شعب بأكمله، إضافة إلى سرده لأحداث إنسانية وثورية تتعلق بقضية الكرامة والأرض والسلطة والنفوذ التي جسد معانيها شخصية "منصور الحفني"، التي تقمصها الفنان أحمد السقا، فحبه للأرض ولسلطة العائلة جعلته يعود إلى موطنه من أجل استرداد ما أُخذ منه بالقوة، فبرغم شراسة شخصية "منصور الحفني" في التعامل مع الآخر، ولكن الجانب الإنساني كان يشع منه، وظهر ذلك بشكل واضح في شخصية الرجل الصعيدي الذي يعشق امرأة تنتمي لعائلة تكن مظاهر الكره والحقد لعائلته، وبينهما قضايا ثأر لا يمكن إنهائها بواسطة العقل، بل الدم هو من يحكم بين العائلتين.
ولكن رغم هذا كان الحب والعشق ظاهرًا أيضًا في أحداث الفيلم فشخصية "كريمة" التي جسدتها الفنانة هند صبري استطاعت أن تؤجج ملامح الغرام من الماضي إلى الحاضر، واعتقد أن الرؤية السينمائية لشخصية "منصور الحفني" اتخذت شكلًا وطابعًا آخر في التعاطي مع كل شخوص الأحداث والسبب يعود هنا لشخصية "كريمة"، فحبه لهذه المرأة جعله يقتل العنف بداخله ليحوله إلى ثورة للحرية من أجل موطنه الذي احتله "جعفر" الشخصية التي تقمصها الراحل خالد صالح.
هنا لن اتحدث عن خالد صالح بصفتي محلل سينمائي أو متذوق أو ناقد سينمائي، هنا سأحاول أن احتفظ قدر المستطاع بحالتي كإنسان يعشق السينما منذ الصغر، فخالد صالح رغم قصر عمره الفني في السينما لكنه كان فناناً متميزًا رائعًا مدهشًا وأعماله السينمائية مثل " هي فوضى" و" ابن القنصل" و" الحرامي والعبيط" و" فبراير الأسود" ورائعته السينمائية " كف القمر" التي اعشق مشاهدتها مرارًا وتكرارًا، كل هذه الأعمال صنعت أشياءً جميلة في حياتي على الأقل كمشاهد وإنسان يهوى السينما، وعلى الرغم من أن المرض كان ظاهرًا على خالد صالح لكن عطائه كفنان سبق المرض لأميال، لكي يصنع أخر صيحة من صيحاته السينمائية: الجزيرة 2.
هنا لابد من ذكر الفنان خالد الصاوي الذي أدى دوره بكل دقة وحرص وأخلاق فنية بعيدة عن التصنع، وأدهش الجماهير بطلته المتميزة كضابط شرطة يؤدي واجبه تجاه وطنه بشرف وكبرياء.
الحوار والسيناريو والإخراج والمؤثرات والخدع البصرية كل هذه الأشياء امتزجت بشكل علمي من أجل إنتاج الجزيرة 2، وهذه عملية ليست بالسهولة التي ربما يتخيلها البعض، فمن الصعب مزج كل هذه الآدوات بدقة ومثالية من أجل صنع معجزة سينمائية، لهذا لا يصل الفيلم إلى زوايا العالمية والاوسكار والسعفة الذهبية دون أن تمتزج كل هذه الأشياء في بوتقة الإبداع السينمائي لكي تشكل روح تلهب الجماهير، لذا ففيلم الجزيرة 2 استطاع أن يستحوذ على كل هذه الآدوات ويستغلها في سبيل إعطاء إضافة معاصرة للسينما المصرية.
فالجزيرة 2 يعتبر من الناحية السينمائية فيلم استوفى كل الشروط لكي يحقق معادلة الفن السينمائي بدء بالممثلين وصولًا إلى الإضاءة والديكور والمونتاج ومطابقة الألوان مع الزوايا الطبيعية، إضافة إلي إضفاء طابع الإثارة والمتعة في تصوير أحداث الفيلم، فهو يستمد حقائق من واقع شعب بأكمله قضى حقبة سوداء في تاريخه.
أيضًا هنالك عامل آخر ساهم في إنجاح الفيلم، ألا وهو عامل التكنولوجيا المرئية والسمعية من حيث استخدام أحدث الكاميرات في نقل الصورة البصرية بشفافية ووضوح تام.
الجزيرة 2 فيلم لا يمكن صناعته كل يوم كما لا يمكن أن يلتقي عظماء الفن المصري أيضًا كل يوم، فهذه صدف تحدث أحيانًا ولكنها ما أن تحدث فأنها تحدث ضجة في أروقة دور العرض السينمائية، وخير دليل على ذلك الإقبال الجماهيري الغفير الذي اكتسح دور العرض لحضور ومشاهدة الجزيرة 2.
أحداث هذا الفيلم لم تكتمل بعد، فهنالك أحداث يمكن إضافتها لكي تكتمل الصورة، فالجزيرة 1 دون نقطة البداية لحالة بضع أفراد يعيشون ضمن مساحة معينة من الأرض تحكي قصصهم وسلوكيات يومياتهم المتشعبة، بينما الجزيرة 2 استطاع الخروج عن الإطار المعهود مثل بعض الأفلام المصرية وحاول أن يستقطب الفكر والعقل تجاه قضايا مصيرية تهدد حرية الإنسان، فمثلما يحق للتاريخ أن يذكر كازانوفا على أنه زير نساء، وأن يذكر الكوارث التي تهز عرش أفريقيا بالإيبولا، يجب أن يذكر تاريخ السينما شخصية "منصور الحفني" و"كريمة" على أنهما العاشقان الثائران الغاضبان المتمردان في الجزيرة 1 و2... لذا اعتقد وهذه رؤيتي كمحلل ومتذوق سينمائي أن السينما المصرية بحاجة لصناعة الجزيرة 3، ولكن هذه المرة أنا متأكد إنها ستزلزل عرش الأوسكار.