"قبل زحمة الصيف".. مُلاطفة الواقع

  • مقال
  • 03:26 مساءً - 12 ديسمبر 2015
  • 1 صورة



قبل زحمة الصيف

يُعرض لنا ضمن فعاليات مسابقة المهر الطويل بـ مهرجان دبي السينمائي الدولي لعام 2015، فيلم " قبل زحمة الصيف" للمخرج الكبير محمد خان، وهو الذي اعتدنا أن كاميرته دومًا تُداعب الواقع، وتتوغل بعلاقات إنسانية تمخضت عن مواقف تعلقت بوجداننا في مواضع عدة.

محمد خان الذي لا يتنازل أبدًا عن مٌعانقة الواقع ونبش ملامحه القاسية التي قد يُصدم لشراستها البعض أحيانًا، فهو ثابت الأقدام على فن أراد به أن ينسج خيوطه من نبض مجتمعنا ومرادفاته المختلفة، نابشًا بين المستويات والطبقات، كاشفًا عن الكدح أو الضنك أو حتى قّصُو شخوصه عنهما بوسائلهم الذاتية، مثلما فعلت فتاته الحالمة "نجوى" بفيلمه " شقة مصر الجديدة"، لتصحبنا معها في رحلة طويلة مليئة بالمنعطفات التي نُحتت من طبقات مجتمعنا بظروفها المختلفة، وعلى صعيد آخر ينضح هدف الرحلة نفسها بشاعرية ترتعد لها الأطراف، ونوستالجيا لا تقاومها الأرواح، بينما رأينا له في " فتاة المصنع"، ذلك المجتمع المصنعي المحدود وما ذخر به من صراعات وعلاقات متشابكة ، وتلك الفتاة التي كادت تزهق معتقدات مغلوطة روحها دون وجه حق، واقتربنا معه من شخصيات غمرها ضيق الحال. وفي " بنات وسط البلد" تمكن من رسم العلاقات بين شخوصه، وجعلنا نغوص بمواقفها المختلفة.. كل هذا يقدمه لنا بكاميرا ألفًت الواقع وأدركت طباعه جيدًا فأمست تعانقه بسهولة، لتخترق بنا أعماقه دون أي إرغام.

ربما تجربته هذه المرة قادرة على إثارة فضولنا على أكثر من مستوى، فهو وبعد عدة تعاونات مع السيناريست " وسام سليمان" في أفلامه الثلاثة الأخيرة، يبتعد هذه المرة متعاونًا مع السيناريست " غادة شهبندر" في أول تجاربها، فيراودنا السؤال عن هذا الذي جذبه لنصها ودفعه لأن يبحر في عالم أوراقها مجسدًا إياه بأدواته لنا، ووفقًا لإعلان الفيلم الذي تم طرحه الأيام الماضية على الشبكة العنكبوتية، قد يتراءى لنا أن أجواء خان مختلفة هذه المرة، وأنه قد يُضمِر لنا بعضًا من مفاجآته التي لا تنضب، فهو يُسلِّط الضوء على مجموعة من العلاقات التي تضافرت بين شخوصه في قرية ساحلية قبل بدء موسم الصيف.

فتدور العلاقات بين الطبيبيّن المتزوجين بما لحقهما من مشاكل ( ماجد الكدواني و لانا مشتاق)، وبين المرأة الجميلة المُلفتة للأنظار بشاليه مُجاور لهما ( هنا شيحة)، لينضم لها حبيبها الممثل نصف المشهور ( هاني المتناوي)، بينما يعمل على خدمة قاطني القرية صعيدي بسيط الحال ( أحمد داود)، بما زخرف تلك الروابط من خلافات أسرية أو نزوات عاطفية أضرمت العُزلة نيرانها، فيتضح لنا في طبيعة الشخصيات تباين المستويات والثقافات بما ينجم عن تشابكها من صراعات لمناظير مختلفة، فنضمن ألا يفوتنا نبش خان الدائم فيما بين السطور.

أيضًا اختيارات خان مثيرة للانتباه، ماجد الكدواني الذي شهد أدائه نُضج كبير يزداد جودة في أدواره الأخيرة، هنا شيحة التي انتعش أدائها بأدوارها التليفزيونية الأخيرة ويتضح من إعلان الفيلم أنها تلعب دور جريء قد لا تقبل به أخريات، وأحمد داود الذي أسر بأدائه شرائح عديدة من المّشاهدين فيما قدمه، سواء شخصية "صابر" بمسلسل " سجن النسا" أو "رجب" في فيلم " ولاد رزق".

من مثيرات الفضول أيضًا -وهو أمر قد يروق لكثيرين وأنا منهم- قيام حبكة النص على خمسة أشخاص لا غير، يتناوبون العلاقات فيما بينهم داخل القرية الساحلية، لنلهث معهم في ذلك المحيط ونُعانق قصصهم دون أن ننفصم عن ملامحها.. حتى أن خان استغرق في تصوير فيلمه ما لم يزد عن شهر كما صرح في الندوة التي تلت عرض فيلمه، وربما قصد بذلك التوافق مع إيقاع نصه والتجانس مع سيرورة قصص شخصياته وعلاقاتهم.

وفيما كُتب عن الفيلم حتى الآن، إشادة بقدرة خان على رسم شخوصه وصياغة علاقاتهم، كاشفًا التفاوت الطبقي وما انعكس به على تكوينهم النفسي والعقلي والأخلاقي، مع مسحة رومانسية كوميدية تَحِد من حرارة الأجواء والأمور، فندرك بسهولة أن هذا الرجل لن يتخلى عن مداعبة الواقع ومُعانقة تفاصيله، ربما فقط ابتعد عن قلبه النابض بالضنك والكدح مثلما شاهدنا في فيلمه "فتاة المصنع"، ليقدمه في أجواء ساحلية تضخ بالتحرر والانطلاق، فمع مداعبته المألوفة للواقع، قرر ملاطفته على الشاشة من خلال الأجواء التي تعرضه هذه المرة.



تعليقات