في نهاية اليوم التاسع من فعاليّة "النُسخ المُرمَّمة"، عرض الفيلم العاشر الطويل في مسيرة "يوسف شاهين"، وهو الفيلم الغنائي-الكوميدي (أنتَ حبيبي)، الذي يُعد أحد أهم الأفلام الغنائية والاستعراضية في تاريخ السينما المصرية، وهو جماهيريّ وذو شعبيّة كبيرة عند محبي هذا النوع، وقد قيل عنه أشياءٌ كالفيلم الذي صنعه شاهين ولم يصنع لن مثيلًا (فيلم كوميدي خالص)، كما اعتبره البعض من الأفلام التي تُميّز فعلًا هذا الرجل في قدرته على صناعة مختلف نوعيات الأفلام؛ فكما كان (باب الحديد) عملًا طليعيًا بإمتياز على مستوى الموضوع والتمثيل والإخراج، فقد كان (أنتَ حبيبي) فيلم جماهيري قلبًا وقالبًا: فيلمًا مصنوعًا للجماهير، ولكي يقضي المُشاهد ساعتين لطيفتين يضحك ويستمتع، ويقضي فيهُما تجربةً رائعة.
يبدأ الفيلم بمشهد عبقري قبل ظهور التترات يُرسي طبيعة (الفيلم الكوميدي) الذي نحن بصدد مُشاهدته؛ فنجد رجال شرطة في حركة سريعة ومضطربة يتسارعون كأنهم على وشك القبض على مجرم خطير.. نذهب بعدها إلى أحد شوارع وسط البلد وقد تم الالتفاف حول رجلٌ يركض هربًا (شخصية "فريد الأطرش") لكي نعلم بعدها بثوانٍ أنه يهرب لأنه "لا يريد أن يتجوز"!، تقبض الشرطة عليه، يأتي أبوه مرددًا "هتتجوز غضبٍ عن عينك وعين أبوك اللي هوّا أنا".. ويُجرّ بالقوة لعُرسه، وهي المرّة رقم أربعة التي يحدث فيها الأمر!. بعدها تظهر التترات في موسيقى كلاسيكية مرحة تضعنا في موود الفيلم الفكاهي، الذي تبدو لنا أجوائه الكوميدية خفيفة الظل تلك قويّة، ونُكاته وأفشاته بها نوعٌ من أصالة ولا تقليديّة الأفكار.
بعدها نذهب للجهة الأخرى من القصة؛ "شادية/ياسمين" التي تهيم بالبُكاء مرددةً عبارة "مش عايزة أتجوّز" وشخصية "زينات صدقي" توبّخها بأسلوبها الكوميدي الخاص أن الفتيات في مثل حالتها تكون في قمة السعادة والانشراح.
ثلاث دقائق كافية لتعريفُنا نوع الفيلم الذي نحن على وشك قضاء ساعتين ممتعتين أمامه.
. . .
هذا الفيلم رائع للغاية حقًا، لم أتصوّر أن يُقدّم شاهين عملًا كوميديًا وهيستيريًا في وقعُه، وطزاجة مواقفه كمثل التي قدّمها هُنا.. شاهين يتبنى فكرة الفيلم المصنوع للجماهير في المقام الأول، ويصنع واحدًا من أفلام النخبة في هذا المنطلق، هو شيء مختلف على سينما شاهين الذي تعودنا فيها تقديم جوانب ثقافية وفِكريّة حتى ولو مالت الكفّة لصالح الناحية الجماهيرية على حساب الأفكار التي يريدها شاهين أن تظهر.. هذه حالة خاصة ومميزة وأكثر أفلام شاهين بُعدًا عنه في موضوعها رغم أن الأسلوب هنا واضح عليه البصمة الشاهينية.
على صعيد الكوميديا، المواقف فعّالة وسهلة التواصل معها؛ فنحن أمام شخصيتان لا يطيقا بعضهما البعض ولا يتخيّلان كيف يمكنهُما العيش في بيتًا واحدًا سويًا يومًا من الأيام، لكنهما وفي ظل محاولة كلًا منهما إظهار للآخر مقدار ثقل دمه وكرهه له، يتفقان سويًا على "تمثيل" هذه الحكاية حتى يظفران بمبلغ مالي هائل هي ورث العائلة الذي سيكون من نصيبهُما في حالة تمّ الجواز. وتنفجر من هذه الفكرة مواقف ولحظات كوميدية في غاية الجمال على مدار الفيلم؛ سواءً أمام العائلة التي لا يريدانِهُما شم خبر التمثيلية المُحكاة، أو أصدقائهما وعشيق/ة كل شخص منهما اللذان يُقررا الذهاب لرحلة إلى أسوان (هي شهر العسل)، حتى يستطيعا الهروب من فكرة البقاء في بيت واحد، لأنهما لو فَعَلا لقتلا بعضهمُا !
وعلى صعيد الموسيقى، الفيلم يحمل أحد أشهر المشاهد الاستعراضية في سينما شاهين المعروف عنه وَلَعه بالمشاهد الموسيقية وبالمزيكا منذ بداية باكورة أعماله السينمائية في فيلم (بابا أمين) الذي جعل "فاتن حمامة" تغني فيه، وتقريبًا كل أفلام شاهين إما بها مشاهد "موسيقية" كتلك (منهم على سبيل المثال عودة الابن الضال، اليوم السادس، المصير، و"إسكندرية كمان وكمان" بالتأكيد)، أو أن يكون فيها اهتمام هائل بالموسيقى التصويرية... هُنا المشاهد المُقدَّمة بـ"أنتَ حبيبي" تصنّف الفيلم فعلًا لفيلم ميوزيكالي على عكس ما رأيته في "ودّعت حبك" الذي به مقتطفات موسيقية لكنها ليست مؤثرة في صلب الموضوع، ولا تحيلهُ لهذا الچونر.
ويضمّ "أنتَ حبيبي" أحد أشهر الأغنيات التي قدّمها كلًا من "شادية" و"فريد الأطرش" على الشاشة، كـ(زينة والله زينة) و(أحلفلك ماتصدّقشي) الذي جمعتهُما سويًا، و(مايكونش ده اللي اسمه الهوى) التي غنتها شادية وحدها، و(مرّة يغنيني) من الأطرش وحيدًا، و(يا مقبّل يوم وليلة) التي تراقصت فيه "هند رُستم" في عربة الدرجة الثالثة من القطار وسط الفلاحات والفلاحين بينما الأطرش كان يُطرب الناس بصوته.. لكن أشهر تلك الأغنيات هي بالتأكيد (يا سلام على حبّي وحبّك) التي كانت من المفاجآت السارّة عليّ أن أشاهدها على الشاشة الكبيرة، وهو مشهد موسيقي - كوميدي لطيف للغاية نرى فيه شادية وفريد الأطرش يغنون سويًا الأغنية التي تُأكد كلماتها لعائلتهُما أنهُما هائمين غرامًا وعشقًا، بينما يقومان بمضايقة بعضهما البعض أثناء الغناء.
*من العجيب بالنظر إلى ما قدّمه "شاهين" في (ودّعت حبّك) الذي جمع شادية وفريد الأطرش في ذات العام أيضًا (۱۹٥٧) رؤية مدى التطور والنضج وأيضًا الاختلاف بين الفيلمين، الذي لا أعلم هل قُدّم الثاني (أنتَ حبيبي) نتيجةً لعدم جماهيرية الأول أم ماذا؟، لكن المؤكد منه أن شاهين غيّر كثيرًا من الأشياء في الفيلم الثاني التي كانت يُمكن استغلالها بشكلٍ أفضل في الأول؛ أول هذه الأشياء هي (صناعة فيلم ممتع في المُشاهدة) وقد تحقق الأمر بفضل ظرافة الأجواء وبراعة تصميم مشاهد الكوميديا التي كانت القصة التي كتبها "أبو السعود الإبياري" نصيبٌ كبيرٌ فيها، الأمر الذي كان ضبابيًا وبه قدرًا من الكآبة في الفيلم الأول. بالإضافة لبراعة "تصوير" المشاهد الموسيقية، التي كان أبرزها مشهد أغنية (يا مقبّل يوم وليلة).
*الكيمياء هُنا منسجمة ومتوافقة إلى حدٍ كبير بين شادية وفريد الأطرش، ومُلاحَظ جدًا استمتاعهُما بالوقت الذي يمثلانه سويًا فيه كأنهمُا في نزهة خلوية لا أمام الكاميرا يُصوّران فيلم. أيضًا شخصية "زاهر" (عبد المنعم إبراهيـم) كان لها دورًا محوريًا في إعطاء المشاهد الكوميدية تأثيرها، فهو الشخص الأبله الذي يظهر على وجهة الاندهاش والمُفاجئة، وهو أشبه بدور المُشاهِد الذي يريد فهم مجريات القصة، وإليه تُحكى تفاصيل الـ(حكاية التمثيلية). أيضًا شخصيات كـ"زينات صدقي" في دور أم ياسمين و"ميمي شكيب" في دور بهيجة هانِم/أُم فريد، كان لهُما إضافة هامة على كوميديا النصف الأول من الفيلم.
*لكن ما أزعجني حقًا هو تكرار معضلة (الوقوع في الحب) التي حصُلت بذات الطريقة تقريبًا في "ودّعت حبك"، وهي هُنا تغيب عنها المبررات وتأتي بصورة مفتعلة وساذجة؛ فياسمين (شادية) تجد نفسها قد سُحِرَت فعلًا بعيون هذا الرجل التي كانت لا تطيقه منذ وقتٍ قليل وترغب بأن يتزوّجها، وهي ثغرة يمكن ألا يتماشى معها البعض.. كأن شادية قد قرأت سطرًا في السيناريو يقول أن شخصيتها تتحول من هذا إلى ذاك، وفَعَلت كما هو مكتوب!
. . . . . .
في النهاية "أنتَ حبيبي" عملًا رائعًا وخلّابًا وساحرًا في صنفي الموسيقى الغنائية والكوميديا.. وهو فيلمٌ باقٍ ويُمكن مُشاهدته مرات كثيرة دون الإملال منه رغم صدوره منذ أكثر من ستون سنة.