21 فيلمًا في 14 عام هم حصيلة عاطف الطيب في الحياة الفنية، والذي اعتبره الكثيرين خليفة المخرج الكبير صلاح أبو سيف أستاذ الواقعية، وذلك نظرًا للتقارب الشديد بين الاثنين، فكل منهما نزل إلى الواقع كونه خرج منه في الأساس وحاول التعبير عنه.
عاطف الطيب من نزل إلى قلب صعيد مصر في الهروب، وإلى السلخانة في ضد الحكومة، ومعسكرات الأمن المركزي في البرىء، والصحراء في ناجي العلي، وموقف التاكسي في الدنيا على جناح يمامة، ووسط البلد في الحب فوق هضبة الهرم، هو أيضا صاحب سواق الأتوبيس الفيلم الذي كان بمثابة الصدمة الناتجة عن ارتطام الأحلام بالواقع المصري الجديد وقتها، هو أيضا من فك طلاسم رواية نجيب محفوظ " قلب الليل" والتي كان من المستحيل تقديمها سينمائيًا نظرًا لرموزها الكثيرة، والتي كانت تحتاج إلى سيناريست متميز مثل محسن زايد ومخرج يقدر على ملامسة هذه الشفرات وإيصالها في صورة مناسبة للمشاهد العادي، لذا لم يكن لها إلا عاطف الطيب.
أوراق من حياته
رحل عاطف الطيب في 23 يونيو 1995 تاركًا خلفه تراثًا يقدر بـ21 فيلمًا، أو بالأصح لوحة واقعية ترسم واقع الحياة المصرية في فترة الثمانينات وبداية التسعينات، وكأنه كان يشعر بأن عمره في الحياة قصير، مما جعله يخرج عددًا أكبر من اﻷفلام في وقت قصير، وكأنه كان يسابق الحياة، فمن يلحق بالآخر، رحل بانتكاسة بعد عملية قسطرة في القلب بخطأ من الطبيب المعالج، بعدما كان يود أن يخرج فيلمًا لـ عادل إمام و نبيلة عبيد، ولكن لم يمهله القدر الفرصة، ورحل عنا فجأة في وقت لم يكن يتوقع أحد هذا، وكأنه يمكن لأحد أن يتوقع ما يفعله القدر وينتظره.
الكاتب في أفضل حالاته
تكامل الصورة عند الطيب لم يكن من فراغ، ولم يكن له وحده فقط بالطبع، لذلك هناك ملاحظة عجيبة تجدها في أفلامه، وهو أن ما قدمه الطيب من أفلام يعتبر هو أفضل ما قدمه فريق العمل الذي عمل معه بداية من السيناريست إلى المصور إلى المونتاج، وبالطبع الإخراج البسيط الذي دأب عليه الطيب في أفلامه.
قدم وحيد حامد مع الطيب خمسة أفلام، هي بالترتيب التخشيبة و ملف في الآداب والبرىء والدنيا على جناح يمامة وأخيرا كشف المستور، ولعل أشهرها على الإطلاق فيلم البرىء، وهو الذي لم يُعرض إلا بعد مشاهدة وزيري الدفاع والداخلية له، وحذف مشهد النهاية من النسخة الأصلية، والطريف أنه بعد كل هذا قامت ثورة الأمن المركزي بعد عرض الفيلم مباشرة، وهو ما يدل على أن الفيلم لامس الواقع بطريقة مباشرة.
الكاتب بشير الديك لعل أفضل ما أبدعه هو ما قدمه مع عاطف الطيب، لك فقط أن تعلم أن تعاونهما بدأ بفيلم سواق الأتوبيس، ثم ضربة معلم ثم ناجي العلي ثم ضد الحكومة وانتهت بـ جبر الخواطر والذي لم يكمله الطيب، ولو لاحظت أن كل أعمال بشير الديك والطيب كانت صاحبة مشاكل رقابية، وأيضا أعمال صادمة تعري الواقع، اتضحت أكثر في سواق الأتوبيس، الفيلم صاحب الضجة والصدمة الأكبر، وناجي العلي الذي أقامت دار أخبار اليوم حملة ضد الفيلم ومنفذيه بداية من عاطف الطيب لبشير الديك لـ نور الشريف البطل، واتهمتهم ببيع مصر، وشككت في وطنيتهم، ويعد الفيلم هو النقطة الفاصلة في حياة الثلاثي "الطيب والديك ونور الشريف"، والذي ظهر أثره في أفلامهم التالية، والتي أصبحت سياسية أكثر منها واقعية، وكأنها رد على ما حدث.
السينارست مصطفى محرم والذي اشتهر بالأعمال الدرامية كان له تعاونه الخاص أيضًا مع الطيب، والذي بدأ بالمعالجة السنيمائية الرائعة لقصة نجيب محفوظ "الحب فوق هضبة الهرم"، ثم أبناء وقتلة في دراما حياتية تمر أيام النكسة وحتى الانفتاح، ثم أفضل تعاملاتهما على الإطلاق في "الهروب"، وهو الفيلم الذي حصد الكثير من الجوائز النقدية، ولكن أهمها حصده لجوائز المشاهد العادي، والذي ارتبط بـ"منتصر" بطل الفيلم، وهو فوق قطار الصعيد هاربًا من واقع مرير إلى ما هو أكثر مرارة.
كذلك كان هناك تجارب متميزة للكاتب أسامة أنور عكاشة مع الطيب بدأت بـ كتيبة الإعدام وانتهت بـ دماء على الأسفلت، أيضا عبدالحي أديب الذي تعاون مع الطيب في " البدرون"، والكاتب وصفي درويش في أول أفلام الطيب وهو " الغيرة القاتلة" في معالجة لـ"عطيل" شكسبير، وتجربة حالمة ممنوعة من العرض في التليفزيون المصري مع الشاعر عبد الرحيم منصور والناقد رفيق الصبان في فيلم " الزمار"، وهو التجربة الشاعرية الرقيقة، ثم تجربة متميزة مع معالجة السيناريست الراحل محسن زايد لرواية نجيب محفوظ المعقدة "قلب الليل"، والتي خرجت من طلاسمها على يد زايد والطيب إلى تجربة رومانسية درامية، ثم " إنذار بالطاعة" مع الكاتب خالد البنا في أفضل ما كتب، لننتهي بتجربة مشتركة هي أكثر أعمال عاطف الطيب حصدًا للجوائز وهي ليلة ساخنة، والتي كتب لها السيناريو الناقد رفيق الصبان، وكتب الحوار كل من بشير الديك و محمد أشرف، وهي التجربة التي نالت الكثير من التكريمات والجوائز بعد وفاة الطيب.
البطل عندما يبدع
قدم نور الشريف مع عاطف الطيب تسعة أفلام هي نتاج حالة سنيمائية بدأت بصدمة هي "سواق الأتوبيس" وانتهت بصدمة هي "ليلة ساخنة"، وكأن الطيب ونور اتفقا على أن الواقع لا تحل مشاكله إلا بالتصادم معه، وهذا ما حدث بالفعل.
يقول الفنان نور الشريف بأنه والطيب كانا يشكلان حالة مجنونة داخل اللوكيشن، فقد كان هناك توافقًا كبيرًا بينهما في التناول الفكري لأي قضية، وهذا ما ظهر جليًا في الروح الواحدة التي خرجت في تعاملهما معًا.
الفنان أحمد زكي قدم خمسة أفلام مع عاطف الطيب تعتبر علامات في تاريخهما، وأيضا في تاريخ السينما المصرية، ظهرت أكثر في "الحب فوق هضبة الهرم" و"البرىء" و"الهروب" و"ضد الحكومة"، ولعل أفلام زكي مع الطيب كانت سياسية أكثر من كونها واقعية، فكانت تعتمد على التناول الواقعي لأي شكل سياسي، وأيضا تناول ما يمس السلطة بطريقة تقترب إلى الدراما الواقعية التي تعتمد على الحدوتة وترمز إلى الواقع السياسي والفكري الذي تدور في فلكه هذه الحدوتة الدرامية.
تحدث أحمد زكي من قبل عن يوم تصوير مشهد لـ"منتصر" بطل فيلم "الهروب"، وهو فوق قطار الصعيد، موضحًا أنه لم يكن يعلم أن هذا اليوم هو تصوير هذا المشهد، إذ لم يخبره الطيب الذي كان يعلم مسبقًا بقلق زكي تجاه هذا المشهد، وأخبره فقط أنها مجرد بروفة، إلى أن تم تصوير المشهد.
الفنانة لبلبة تعتبر الطيب هو العلامة الفاصلة في حياتها الفنية، لأنه من نقلها من الأدوار الاستعراضية والخفيفة إلى الأدوار الدرامية، والتي كان يشكك الكثيرين في قدرتها على تقديمها، والتى قدمتها بأفضل صورة ظهرت في "سامية" المحامية الانتهازية في البداية والإنسانة في النهاية في فيلم "ضد الحكومة"، ثم "حورية" فتاة الليل التي تتوب على يد سائق التاكسي في "ليلة ساخنة"، وهو الدور الذي طالما بكت لبلبة كثيرًا كلما تذكرت فترة تصويره.
مخرج سينما البسطاء
هكذا اُطلق على الطيب بعد وفاته، نظرًا لأن ما قدمه للسينما المصرية هو تحرير لها من سطوة الأفلام الخفيفة وأفلام المقاولات التي انتشرت في الثمانينات، وهو من حمل على عاتقه مع محمد خان و خيري بشارة و داوود عبدالسيد وغيرهم من مخرجي الواقعية الجدد، تحرير السينما المصرية من التيمة القديمة المستهلكة، والتي كانت تهدف في الأساس إلى شباك التذاكر، ولعل ما ميّز الطيب عن غيره هو ما قدمه من دراما واقعية تختلف عن السينما المقدمة وقتها، وفي نفس الوقت كان يحظى بجمهور كبير على شباك التذاكر، ولاقت أفلامه كلها النجاح دون استثناء، وهي معادلة من الصعب جدًا تحقيقها أو تكرارها، ﻷن ما يحدث الآن أن الجمهور يدفع من أجل الضحك، لا من أجل التصادم مع الواقع.