أنا لا أقوم بشيء بعينه كي أحافظ على التفاصيل الصغيرة التي من شأنها أن تفتح الباب لأسئلة وجودية أكبر، بقدر ما يمكن القول بإن هذه هي المواضيع التي تستهويني شخصيًا؛ ﻷني أرى أن التفاصيل الصغيرة هي التي تصنع الحياة، وأحب دائمًا أن يكون في أعمالي قطاع عرضي من الحياة اليومية لشخصية أعرفها جيدًا، وربما يكون ذلك هو الشيء الوحيد المشترك في جميع أعمالي فيما عدا علي معزة وإبراهيم. فعندما نركز على ربع ساعة في حياة الشخصية الرئيسية لفيلم صباح الفل أو ما بين ثلاث ﻷربع ساعات في حياة الشخصيات ﻷفلام ساعة عصاري وحظر تجول، يصير لديك القدرة على الاقتراب ﻷقصى حد من تفاصيل لم يكن لتستطع رؤيتها في الحياة العادية، أو كمثل استخدام عدسات التقريب في السينما، وهنا يكمن سحر السينما، حيث ترى شيئًا ساحرًا لم تعتد على رؤيته في الحياة الرتيبة والمعتادة، ﻷننا في حيواتنا العادية لم نعتد التوقف للتساؤل عن هذه التفاصيل الصغيرة. إن ضياع مفتاح قد يكون لحظة درامية لكنها ليست ساحرة، بينما في السينما تتحول هذه اللحظة لشيء مختلف تمامًا.
كان لدي هاجس دائم بأن تلتقي الشخصيتان الرئيسيتان في فيلمي"صباح الفل" و"ساعة عصاري" في سياق درامي جديد وهو شوارع القاهرة، بحيث تكون شريكة لهما في البطولة ﻷن أحداث الفيلمين كانا يدوران داخل شقق مغلقة، لكني لم أتجاسر كي أحملهما على اللقاء، ثم قابلت كاتبة السيناريو نورا الشيخ التي أعرفها على المستوى الشخصي، والتي قرأت مسودة السيناريو التي كتبتها، وما كان مغري بالنسبة لي في نصها هو أني وجدت فيه صدى للشخصيات التي قدمتها من قبل، لكنها بالطبع لم تنطلق من هذه الفكرة ذاتها.
اﻷمر ليس خوفًا على اﻹطلاق، وإنما يتعلق اﻷمر بالمجهود المطلوب بذله، ولكن لكي يتم تنفيذه كما يجب، سيكون هناك الكثير من الشد والجذب مع شوارع القاهرة وناسها.
كنت أقوم بتصوير فيلمي في سبتمبر 2014، وكان عليّ طيلة الوقت أن أقف مع كل شخص - وأعني حرفيًا كل شخص - مار في الشارع قد تبتعد الكاميرا عن منزله أو محله بحوالي 30 مترًا لكي أشرح له ما أقوم به، وأن أحكي له قصة الفيلم حتى يقتنع بأهمية صنع هذا الفيلم، ﻷجد من يقول لي مثلًا "وليه تعمل فيلم عن مريض بالسرطان، طب ما تعمل فيلم عن بطل رياضي" وأشياء أخرى من هذا القبيل، واﻷمر يصل لدرجة تستنزفني شخصيًا وتعطلني عن عملي.
فدائمًا ما تجد اﻷشخاص العاديين يتعاملون مع الكاميرا وكأنها عدو لهم، متناسين تمامًا أهميتها الكبرى في توثيق المشاعر واﻷماكن والبشر وشوارع القاهرة وأنواع السيارات وألوانها وهيئات وملابس البشر، وهذا كان من أحد هواجس الفيلم الرئيسية التي كنت أتمنى العمل عليها.
عندما تشاهد فيلم مثل "حياة أو موت"، يكون لديك القدرة على رؤية ما كان عليه حال شوارع القاهرة في ذلك الوقت، ويتحول لمرجع لمن يعملون على العمارة والفراغات البينية والتحليل الاجتماعي والكثير من اﻷشياء، وهو ما يمنح السينما جانبـًا شديد الوظيفية ضمن جوانب عديدة.
كنتُ أرى أنه شيء مهم للغاية لفيلمي "حار جاف صيفًا" أن يوثق لشوارع القاهرة بشكل حقيقي وواقعي، فالمدينة تغيرت بشكل كبير جدًا خاصة في السنوات الخمس اﻷخيرة. وبعد الثورة باتت ملامح التغير في شكل المدينة متسارعة للغاية، وقد نجحتُ في إتمام تصوير الفيلم في سبتمبر/أكتوبر 2014 على مدار 10 أيام.